الأحد، 24 فبراير 2008

لا من أجل أنفسنا فحسب
ماثيو ألبرت*
ترجمة سام برنر[1]


على مدار السنوات الست الماضية وأنا أواظب على قضاء أيام السبت داخل كنيسة.
ففي عام 2000 وأنا بعدي طالب جامعي، رأيت إعلانا صغيرا حول التطوع لمساعدة أسرة سودانية في ضاحية مايدستون بغرب ملبورن. وكانت تلك الأسرة المكونة من سبعة قصر قد وصلت لتوها من معسكر كاكوما للاجئين في كينيا. وقال الإعلان بأنهم في حاجة إلى متطوع يعلمهم الانجليزية أسبوعيا فأخذته إلى صديقة لي قامت بالاتصال بالأسرة وداومت على الذهاب إلى ماديستون كل يوم سبت.
مرت عدة أشهر ليتصل بي هذا الصديق قائلا أن الأسرة التي يقوم بتدريس أفرادها قد قامت بدعوة أقاربهم إلى فصول اللغة الانجليزية وبأنه بدأ يجد صعوبة في تدريسهم جميعا، مما جعلني أنا أيضا بعد القليل من التردد أتوجه إلى مايدستون أسبوعيا.
ومع مرور الوقت صارت الأسرتان ثلاثة، فأربعة فخمسة. حينها قررنا أن الوقت قد حان لتحويل هذا الأمر الذي كنا حتى ذلك الوقت ندعوه بمجرد "موضوع مايدستون" إلى مشروع أكثر رسمية. كانت الخطوة الأولي تتمثل في اختيار اسم للمشروع فقررنا أن نطلق عليه اسم "البرنامج التعليمي السوداني الاسترالي التكاملي" [Sudanese Australian Integrated Learning] أي باختصار SAIL التي تعني "الابحار" لأن الاسم ذكرنا بالرحلات التي قام بها العديد من هؤلاء المشاركين السودانيين.
يعمل بالبرنامج عند كتابتي لهذه الأسطر ما يزيد عن 300 متطوع يقومون كل يوم سبت بمساعدة 450 لاجئ سوداني في ثلاثة كنائس بمدينة ملبورن. ومع أن البرنامج يستغل مبان الكنائس للقيام بعمله ألا أن التعليم الديني ليس جزء من المقرر. فمنظمة SAIL علمانية لاربحية يديرها متطوعون وتقدم الخدمات الاجتماعية وتدريس اللغة الانجليزية لأفراد الجالية السودانية من اللاجئين في ملبورن.
بصفتي المنسق العام للبرنامج أقوم كل يوم سبت بالمرور علي الكنائس الثلاثة كل يوم سبت وهو أمر يضعني أمام خيارين: إما التعبد بالمعبد أو المشاركة في البرنامج. ويفوز البرنامج على المعبد كل يوم سبت. أن مقالتي هذه التي أشرح فيها أسباب هذا الاختيار تتناول بالبحث ثلاثة أوجه لكلمة "المسؤولية" – المسؤولية تجاه العالم، وتجاه الذات وتجاه المجتمع المحلي.
المسؤولية تجاه العالم:
قضيت عام 2004 في كينيا موظفا بمفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. كانت أنظار العالم حينها مشدودة نحو السودان وتدفق التمويل إلى غرب تلك البلاد جاذبا معه عددا من العاملين الدوليين الذين تم تحويلهم إلى دول تجاور السودان غربا، مما ترك ثغرات بين العاملين في معسكر كاكوما للاجئين في شمال غرب كينيا. وقد تم إرسالي إلى هناك لمد يد المساعدة.
يعتبر معسكر كاكوما الواقع في منطقة صحراوية قاحلة واحد من المصادر الرئيسية الثلاثة للاجئين السودانيين القادمين إلى أستراليا ويحتضن 90 ألف شخص. ولم أكن أعرف ما أتوقعه من المعسكر ألا أنني سريعا ما أدركت أن معسكرات اللاجئين عبارة عن غرف انتظار ضخمة ينتظر فيها اللاجئين حلول السلام حتى يتمكنوا من العودة إلى بلادهم، أو ينتظرون قبول حكومات الدول الأجنبية بما فيها أستراليا لهجرتهم إليها كوافدين إنسانيين، أو ينتظرون أقربائهم في الخارج ليرسلوا لهم مالا، أو لعناية أية من المنظمات غير الحكومية التي لا تحصى والموجودة في المعسكر.
وأثناء تواجدي في كاكوما، اضطر سكان المعسكر إلى الانتظار لحصول على شيء لم يعتادوا انتظاره: حصتهم النصف شهرية من الطعام. كنت أتوجه مع زملائي لفترة يومين متتاليين إلى محطة توزيع الطعام حيث لم يكن أمامنا سوى إخبار أهالي المعسكر الوافدين إلينا منذ الشروق وحتى الغروب بأنه لا طعام لدينا وأن عليهم العودة في اليوم التالي. لم يذق العديد منهم طعاما لأكثر من أسبوع. وعند المغيب كنا نترك المعسكر ونعود إلى مجمعنا السكني المحاط بالأسلاك الشائكة يحرسه رجال الأمن المسلحون في أبراجهم العالية، لنتناول وجبة طعام وفيرة مع خيار ملء أطباقنا مرة أخرى إن شئنا.
كنت حينها أقرأ كتابا ألفته إيما ماكون، وهي موظفة معونة بريطانية مثالية. يدعى الكتاب "حرب إيما" ويحكي قصة زواجها من ريك مشار، نائب قائد التمرد في جنوب السودان آنذاك. تقول إيما:
"أن للطعام مذاق ممتاز بعد يوم من مختلف أنواع الإحباط يبدأ في الخامسة فجرا وينتهي مع حلول الليل. فمن له معاتبة الخواجات إن تناولوا وجبة إضافية من السمك المعلب؟ تصورا ما كان عليه طعامهم لو كانوا بمنازلهم في لندن أو ملبورن؟ صحيح أن حولنا أطفال يموتون، ولكن إذا لم يداوم موظفو المعونات على الحفاظ على قواهم فإن عدد أكبر من الأطفال سيموت."
قلت في نفسي بأن هذه الكلمات تنطبق علي، وبعد أيام من التفكير العميق في الأمر استنتجت بأنني لم أكن لأستطيع عمل أي شيء في تلك الأوضاع. إذ لم يكن بإمكاني توزيع طعام المجمع على قلة من اللاجئين بدون تفكر، ألا أنني لم أكن على استعداد لمشاهدة إثبات لنظرية البقاء للأصلح الداروينية وهي تطبق على جموع اللاجئين.
واتتني آنذاك فكرة أراحت ضميري بشكل عجيب: ما الفرق بين تناولي وجبتين في كاكوما أو في ملبورن؟ صحيح أنني في المعسكر أقرب جسديا من الجائعين، ألا أن الاختلاف ينتهي عند ذلك. كلما تناولت وجبة في ملبورن ساورني الإدراك بأن هناك أناس لا يمكنهم الحصول على هذا الطعام. ومع أنه لم يكن بيدنا القيام بشيء للحصول على المزيد من الطعام في كاكوما، ألا أنني في ملبورن أستطيع حشد التأييد لإرسال المزيد من المعونات إلى هناك. إذا فإن الاهتمام بالوضع الغذائي لكاكوما وأنا في ملبورن منطقي أكثر. وإن وضعنا أمر قرب المسافة جانبا فإنه يتضح لنا بأننا نعيش في عالم متبادل الاتكال.
قدمت لي ابنة عمي روزي الصغيرة النتيجة الطبيعية لهذا التحليل الذاتي عندما توجهت إلى والدتها بسؤال حيرها وهو "اماذا أنا أنا؟" وضحكنا حينها من نضج السؤال بالنسبة لطفلة في العاشرة من عمرها، ولكنني تفكرت فيها كثيرا منذ ذلك الحين. لماذا أنا أنا ولست لاجئا؟ لماذا هم، لا أنا، في هذا الوضع؟ وأبقى أعمل على مشروع SAILS لأنني أأمل في أن أشخاص ما سيعتنون بي ويعلمونني إن في المكان الذي سيستقبلني إن قدر لي يوما أن أحبر على ترك وطني وأهلي. وربما أفضل إجابة على سؤال روزي هو سؤال آخر طرحه الخاخام هيليل: "لو لم أكن أنا أنا وكنت بحاجة إلى العون، فماذا كنت أود أنا أن يقوم به شخصي تجاهي؟"
بالتأكيد سأريد اهتمام الغرباء بوضعي. كما قال إيلي فيزل وهو أحد الناجين من مهلكة الحرب العالمية الثانية في خطاب قبوله لجائزة نوبل للسلام في عام 1986:
الصمت يشجع من يقومون بالتعذيب وليس من يتم تعذيبهم. أن أي مكان في العالم يتعرض فيه الرجال والنساء للاضطهاد بسبب جنسهم أو دينهم أو أرائهم السياسية يجب أن يصبح حينها نقطة مركز الكون بحاله .
أن مسؤوليتنا كيهود هو "تيككون عولام" (إصلاح العالم من خلال العمل الاجتماعي) والقيام بذلك برفع أصواتنا عالية والبقاء واعيين بما يحدث بعيدا عن ديارنا.
وقد قال فيزل في خطاب آخر له أن كونه يهوديا يعني أن عليه التواجد في أي مكان يحتاج فيه غيره من اليهود للعون. أنا أتفق مع الجزء الأول من عبارته تلك ولكني أختلف مع باقيها. فقد فات الوقت الذي على اليهود مساعدة غيرهم من اليهود فقط. فجاليتنا لا تكون أغلبية اللاجئين أو حتى جزء كبيرا من المستضعفين على الأرض. علينا بالتالي تحمل مسؤولية إصلاح العالم على مدى أوسع من مجرد شعبنا. لنتذكر ما قاله القس الألماني مارتن نيمولر أبان الحرب العالمية الثانية: "لقد أتوا أولا لأخذ اليهود ولكني لم أتفوه بكلمة لأني لست يهوديا (...) ثم جاءوا لأخذ النقابيين ولكني لم أتفوه بكلمة لأني لست نقابيا. وعندما جاء دوري ليأخذوني لم يتبقى أحد ليتفوه بكلمة دفاعا عني."
جاء دورنا لنتفوه لأننا، كيهود أستراليون، أحرار وفي وضع مادي جيد نسبيا. وحتى يكون لوجودنا معنى علينا أن نتأمل في دواخلنا ونمد يدنا إلى خارج مجتمعنا. علينا أن نتأمل دواخلنا لنتفكر في الندبات التي هي جزء من تراثنا، وأن نمتد إلى خارج مجتمعنا لضمان أن تلك الندبات لن تكون من حظ غيرنا من الشعوب. فواجب اليهود الأحرار في رأيي هو ضمان إبقاء التجربة المؤلمة التي مر بها اليهود حكرا عليهم وحدهم لا على غيرهم من الشعوب.
المسؤولية تجاه الذات:
يعتلي مفهوم الصدقة مركز الحياة اليهودية، إذ يقول التلمود البابلي بأن الصدقة لها أهمية تساوي كل الوصايا الباقية مجتمعة. مفهوم الصدقة أوسع من مجرد الإحسان. فكما يشرح الخاخام دوف جرينبرج من جامعة ستانفورد، تتطلب الصدقة من اليهودي بأن:
يقدم للفقير لا سبل الحياة فحسب بل ما يكفي من المال ليعطي الآخرين لأن القدرة على العطاء هي جزء أساسي من كرامة الإنسان. أن الديانة اليهودية تري في العطاء حاجة إنسانية أساسية، لأن كل واحد فينا يريد أن يشعر بأن هناك حاجة إليه. أن العطاء في الديانة اليهودية جزء من الحياة نفسها.
يقول جوناثان ساك الخاخام الأكبر للجالية العبرية المتحدة في أستراليا أن في العطاء حياة. ولن أتوانى في وصف ما شرحه جرينبرج بلطف كأنانية الفعل الغيري، لأن في نهاية الأمر من يقوم بعمل خير إنما يجني حيرا لنفسه – وأنا واحد منهم.
تطرح تجربتي في مشروع SAILS الضوء على معنى الصدقة. فهناك أكثر من وسيلة أستفيد بها أنا شخصيا من البرنامج. أن رؤية 500 شخصا وهم بوظفون جهودهم لإعادة بناء الحياة والتشارك يسعدني أكثر من أي شيء أخر طوال الأسبوع. وتسمو الأحضان التي أتلقاها من المشاركين في البرنامج بروحي عاليا. كلا الأمرين سبب كافي لما أبذله من وقت ومجهود في هذه المنظمة.
تعني كلمة الصدقة الإحسان والعدل معا. فالإحسان أنر سهل – أخرج دفتر الشيكات وأضف عليه حبرا. وفي أبسط صوره قد يكون الإحسان عملا شهما من الطبقة الثرية إلى أسفل الدرج، وبمكن تطبيقها عن بعد وبدون بذل الكثير من المجهود. أما العدل فتحدي مفروض علينا جميعا بغض النظر عن حالتنا المادية. وهو يتطلب عطاء الذات وعطاء الثقة. العدل دون شك نتيجة أعمال عديدة لا عمل واحد فقط.
قسم الفيلسوف اليهودي العربي عبد الله بن ميمون الصدقة إلى ثماني مستويات في كتابه "في العطاء للفقراء" (10:7) أدني الدرجات سلم ابن ميمون هو العطاء دون رضاء وأعلاها مساعدة الشخص على العيش المستقل الكريم أي تمكينهم من العطاء بدورهم. بمعنى آخر للتبادل قيمة أكبر من العطاء واليهودي الخير يتصدق هادفا التبادل.
يبدأ المتطوعون الذين يبذلون وقتهم وجهدهم في سبيل برنامج SAIL باعتباره عمل إحسان من جهة واحدة وعطاء خيرا منهم، ثم سرعان ما يدركون أن قيمة المشاركة في البرنامج لا تكمن في حضورهم بقدر ما تكمن في التبادل. فعندما تسقط عن الأشخاص الذين يعملون معهم صفة الغربة واللجوء يبدأ المتطوع في رؤية تحول المستفيدين من إحسانهم إلى محسنين بدورهم. هذه هي نقطة الذروة في برنامج SAILS، لأن هذه هي هبة كل لاجئ سوداني لكل متطوع. أنها اللحظة التي أبدل فيها مفهومي عن المسؤولية بمتعة التحول إلى متلق وأصبح بهذه الطريقة الفقير الحاصل على الصدقة. فإن مسؤوليتي تجاه الآخرين هي في واقع الأمر جزء من مسؤولية الاعتناء بنفسي.
يسمح برنامج SAILS لمشاركين من مختلف الأديان اختبار أكثر المفاهيم الدينية شمولية في العالم – الاعتناء بعضنا بالبعض. فالمسلم يقوم به لإيمانه بأن من يرحم في الأرض يرحم في الآخرة، بينما تعاليم الكونفوشيين تنص بأن على الشخص مساعدة غيره على بلوغ أهدافهم إن أراد هو أن يبلغ أهدافه. ويتبع الهندوسي قاعدة عدم معاملة الآخرين بطريقة يكرهها لنفسه. هناك مقولة بهائية بألا نزرع في حدائق قلوبنا سوى ورود الحب، أما البوذية فتدعو إلى عدم إيذاء الغير.
برنامج SAILS مكان لتبادل الثقافات والقصص والتجارب – وكلها عملة حسن النوايا والاطمئنان للآخر، وأسمي مستوى للتصدق. أنه مثال حي على اعتراء البشر إلى إنسانيتهم بحثا عن التشابه واستنادا على ما هو شائع بينهم – وهي رسالة كل الكتب اليهودية الكبرى، وتبقي حية ملموسة في برنامجنا.
المسؤولية تجاه المجتمع المحلي:
المسؤولية الأخيرة التي على تحملها كيهودي هي تجاه مجتمعي المحلي، وهي ما أتشارك فيه مع معظم اليهود في أستراليا بشكل عام. ألا أنني أختلف مع بعضهم في تعريفي لمصطلح "مجتمعي المحلي".
هناك عبارة واحدة في احتفالنا بعيد الفصح تضايقني جدا. فعند الانتهاء من تلاوة سفر الخروج [الهاجداه] ونحن جلوس مع عائلتي لعشاء الفصح أوقفهم لأسأل لماذا علينا أن نردد عبارة "العام القادم في أورشليم"؟
للعبارة تاريخ ملتبس بعض الشيء، فهي لم تكن في الأصل جزء من الهاجداه بل أضيفت عليها في القرن الحادي عشر الميلادي أثناء القرون الوسطي. ويتفق المعلقين بأنها تعبر عن الشوق للعودة. يقول ميشيل ألبرين في كتابه أن كلمة "أورشليم" هي صيغة جمع لكلمة "أوروشاه" أي الميراث بالعبرية بمعني "ميراثين":
"ثم أضف علي ذلك خيال الخاخامات المبدع ليفسروا مزمور 122:3 (اورشليم المبنية كمدينة متصلة كلها) لتعني أن هناك مدينتان: أورشليم الأرضية التي هي موضوع تناقضنا ولكنها أيضا مصدر التوراه، وأورشليم العليا التي هي نسخة سماوية لا توصمها تناقضات الحياة الأرضية. "
فالرجوع إذا، في حالة أورشليم الأرضية، هو إلى إسرائيل. أما في حالة أورشليم المثالية، فالعودة إلى يوتوبيا يهودية ما. وما يضايقني في هذا الشوق إلى العودة هو أنه يحط من قيمة المشاركة في الحياة هنا وفي الوقت الحالي، لأن أورشليم المثلى العليا وأورشليم الأرضية المصورة بشكل رومانسي لا هما هنا ولا في الوقت الحالي. أن العيش في الوقت الحاضر هو في رأيي المسؤولية الأساسية لكل فرد منا، ولقد تعلمت هذا الدرس بقوة من جاليات اللاجئين الذين أعمل معهم.
تقول الحكمة المتفق عليها بأن معسكرات اللاجئين أماكن بدون أمل يتوق فيها الشخص للعودة إلى الوطن. والأمر صحيح بالنسبة لبعض اللاجئين، ألا أن غالبية اللاجئين في كاكوما لا يرغبون في التواجد في مكان غير المعسكر. فهم يرون في كاكوما مكانا للالتجاء أفضل بكثير من الأماكن التي هربوا منها طلبا للأمان. ومع ذلك فالمعسكر ملئ بما يذكر الجميع بقسوة الحياة فيه: شبح الموت الذي لا يغيب أبدا متمثلا في صفوف المقابر المبعثرة تغطيها الرمال تحتضن أجساد من تحدوا الموت في الطريق إلى المعسكر ليموتوا فيه. أي نوع من الناس يعيش في مكان تقع المقابر عند مدخله؟؟
هناك اللاجئ الأثيوبي الذي فتح بارا ومطعما في كاكوما ثم أضاف إليه المطعم الثاني. وكأن فتح مطعمين في مكان ينفذ فيه الطعام أحيانا ليس مثالا كافيا على التفاؤل، فإنه أطلق على المطعم اسم "فندق فرانكو بجزيرة كاكوما" مع أن المعسكر يقع على بعد أيام طويلة من أي شيء قد يشبه البحر!
هناك ستة من اللاجئين يحضرون لرسالة الماجستير في الفرع الصغير لجامعة جنوب أفريقيا في كاكوما. وهم يدرسون تخصصات مثل تطوير الأعمال التجارية والتسويق، وسيعود بعضهم يوما إلى قرى ليس بها حتى دكان.
أضف إلى هؤلاء فريق كرة السلة للمقعدين بسبب الألغام. يتمرن الفريق عدة مرات يوميا على طرف المعسكر بجانب مجري النهر الجاف. ولعدم وجود فريق آخر يلعبون ضده، فإن عددا من الأصحاء بدنيا يركبون المقاعد المتحركة ليكنوا الفريق المنافس.
وأخيرا هناك العدد الهائل من النساء اللاتي يربين بالحب والفخر أطفالهن وأطفال أقربائهم المتوفيين.
كل هؤلاء يرفضون تسمية أنفسهم بلقب لاجئين وما يحمله من معاني، بل يختارون الحياة وتحويل الصحراء المحيطة بهم زرعا. فالذين يدركون بأن المكان الأمثل ليس بالضرورة مثاليا يختارون الحياة في الحاضر أينما كانوا، مقرين بأنهم حتى لو استطاعوا العودة إلى مكان ما فلن يكون بإمكانهم العودة إلى ذكرى.
الجالية السودانية في أستراليا جالية يملؤها التفاؤل. فحياتهم في أستراليا ستحدوها الصعوبات لكونهم لاجئين من خلفية غير ناطقة بالإنجليزية، ولكنهم يختارون مواجهة هذه الصعاب لمصلحة أطفالهم بدلا من النزول عند التحديات المألوفة في مكان آخر. يمكننا جميعا أن نستوحي منهم روح المرونة والتصميم.
فلنعود إذا إلى مقولة "العام القادم في أورشليم" وأسباب التلفظ بها.
إذا كان السبب هو تخطيطنا فعلا للسفر إلى أورشليم في العام القادم فلا أجد مشكلة في العبارة مع أنني لا أجد سببا لقولها على مائدة عشاء الفصح – تخيلوا عشاء السبت يقوم كل فرد في الأسرة أثناءه بعرض خططته السنوية! أما إذا كانت العبارة لا تشير إلى خطة سفر ملموسة بل ترمز إلى تفاؤل بمستقبل أفضل فعلينا التعبير عن ذلك التفاؤل بشكل حقيقي ملموس. ويبقى السؤال: ما هو المثل الأعلى الذي نود بلوغه العام القادم؟ من المفترض أن نبلغ الفرح الأمثل الذي تجسده أورشليم (مز 48:2). أن نسب الفرح إلى مدينة بعيدة ما هو نفي الفرح الموجود لكل منا بداره والأماكن المحيطة به – أماكن مثل ضاحية مايدستون. قد يكون من الأفضل إذا أن نقول "العام القادم في فرح." أو "العام القادم في سلام" الذي هو "طموح البشرية الأنبل والأكثر إلحاحا" كما قال فيزل في خطابه قبول جائزة نوبل عام 1986.
إذا كان هدفنا العيش في أورشليم، الأرضية أو المثالية، لن يكون بإمكاننا التركيز على حاجات جيراننا الحالية. إذا كان مفهوم أورشليم هو السعي نحو معايير إنسانية وأخلاقية عليا سيتعين علينا تحمل تلك المسؤولية الآن وهنا. إذا كانت "المنارة المضيئة لشعوب العالم" تضيء من مكان واحد فقط فسيبقى نصف العالم مظلما. على نور العدل والبر إضاءة أكثر الأركان إظلاما على الكرة الأرضية. وكما قال فيزل فإن حياتنا لم تعد ملكا لنا لوحدنا بل هي ملك كل من يحتاجنا بشدة. دعوني أختلف معه قليلا – حياتنا لم تكن ملكنا نحن وحدنا أبدا. العالم الذي نعيش فيه عالم التكافل المتبادل لذا سنعيش بل عشنا دوما للآخرين.
تنمو يهوديتي كلما ألهمني شخص ما، ورؤية البشر يختارون الحياة كما أوصى بذلك سفر التثنية (30:19) أمر يلهمني. وقد اتضح لي هذا عند تواجدي في معسكر كاكوما، وعند رجوعي إلى المنزل أراه كل يوم سبت في كنيسة مليئة بأناس يبنون حياة أفضل لأنفسهم. يهوديتي يهودية أسترالية بحتة ومسؤوليتي هي السعي لإيجاد مستقبل أفضل لمن حولي هنا في أستراليا. جذور مسؤوليتي تنمو فوق تربة أسترالية وأنا أسعى نحو السلام من هنا ولا أتوق إلى التواجد إلا هنا.
سوف أستمر في الاحتفال بيوم السبت في كنيسة بمايدستون، وسأستمر في الاحتجاج كل عيد فصح. وقد أقوم بوقف الاحتفالات العام القادم بهدوء وأقترح أن تبدل العبارة بقول "العام القادم في فرح. العام القادم في أستراليا."
من كتاب "جديد تحت الشمس" ملبورن، دار بلاك أينك للنشر، 2006
* ماثيو ألبرت يهودي أسترالي، يعمل كمحام ويقوم على تنسيق برنامج SAIL (البرنامج التعليمي السوداني الاسترالي التكاملي) ومديرا لجمعية البحوث السودانية الإلكترونية . حصل عام 2005 على لقب أفضل أسترالي شاب في ولاية فيكتوريا ولقب واحد من أبرز عشرة شباب في العالم من المجلس اليهودي العالمي.
[1] سام برنر مترجمة وكاتبة من بريزبن



ليست هناك تعليقات: