نظرة مضيئة على صبية السودان التائهين
إعداد: سام برنر
عندما كان جون بول داو صبيا يافعا في الثالثة عشر من عمره، اضطرته ظروف الحرب إلى أكل الطين وشراب البول، وحفر قبور ضحلة دفن فيها أغلب الأطفال الذين كان مسؤولا عنهم ممن انهاروا أثناء هروبهم من المسلحين. وكانت الضباع تأتي ليلا وتحفر القبور وتستخرج الجثث لتأكلها. وقد تحمل رحلة الألف ميل وسط الأدغال والأنهار المليئة بالتماسيح والأسود هروبا من قريته في جنوب السودان إلى معسكرات اللاجئين في أثيوبيا ثم كينيا بسبب الحرب الأهلية التي قضت على أكثر من مليوني شخص منذ عام 1983.
يبلغ جون اليوم 34 عاما وهو مواطن أميركي يعمل حارسا في نيو يورك أثناء دراسته بجامعة سيراكروز. وهو متزوج وله ابن صغير. وهو أيضا بطل الفيلم الوثائقي الدرامي الذي عرض لأول مرة في مدينة واشنطن الأمريكية يوم 19 يناير من هذا العام. "الله تعب منا" من إخراج كريستوفر كوين وتومي ووكر وإنتاج مجلة "ناشونال جيوغرافيك" وتتابع قصته على مدى 85 دقيقة ثلاثة من الفتية السودانيين من معسكر كاكوما الذي يقيم به ما يزيد عن 90 ألف لاجئ، إلى إعادة توطينهم بالولايات المتحدة بعد تسعة أعوام من الضياع والرعب تحملوها وحدهم، دون أسرة أو أقرباء. عنوان الفيلم مستوحى من عبارة يداوم جون على ترديدها.
من الصعب عدم الشعور بالذنب عندما ينتابك الضحك أحيانا أثناء العرض. فاللاجئين لا ينعمون بالرفاهية في حياتهم الجديدة، بل يواجهون هنا أيضا صعوبات التأقلم على المعيشة الغربية. الخيار شيء يؤكل؟ ورق التواليت يستعمل للتنظيف؟ لا حاجة هناك إلى طبخ رقائق البطاطا؟ ولكن هذه اللحظات الخفيفة هي ضوء الأمل الضروري للبقاء في حياة تكاد تجعلها المشقة مستحيلة. فالعمل المحترم غير متاح، والأمريكيون يخافونهم، خاصة إذا تجمعوا في مجموعات ولكن الوحدة القاتلة والاغتراب تقود بأحد أصدقائهم إلى المصحة العقلية. هناك القلق بسبب الفواتير المتراكمة وبطاقات الائتمان. وبين هذا وذاك هناك الذكريات – مرها وحلوها – من دفن الموتى في كاكوما إلى المناقشات الساخنة التي اعتادوا على تسميتها مازحين بالبرلمان. ومع تكييفهم على الحياة في الغرب يبدأ القلق والهواجس، وثقل الإحساس بالمسؤولية تجاه من تركوهم خلفهم: لماذا تم توطيني أنا وليس زملائي؟ هل أي من أفراد أسرتي حي يرزق؟ هل سأتمكن من إعالة نفسي ومن تبقى من أهلي بالمعسكرات؟
يلتحق أبطالنا بالمدارس وهم يكدون في أكثر من وظيفة مرهقة تدفع قليلا،
يقول جون بول داو بأنه يستخدم حياته في الولايات المتحدة لمساعدة الأهالي في الجنوب السوداني. فالتواصل يبقى رغم المسافات والبحار، وإلا لما كان للحياة معنى. "أرفض الانهماك في المفهوم الأناني للمجتمع هنا – أنا أنا لي لي – بل أريد أن أجمع بين الأنا والنحن. هذا لنا." جون واحد من 25 ألف صبي وفتاة أطلق عليهم اسم "الفتية التائهين" انتهى بهم الأمر في معسكرات اللاجئين دون أمل عودتهم إلى وطنهم. وهو خجول وسكوت بطبعه ولكنه يتسم بصفات قيادية طبيعية جعلت منه ومن اثنين من رفقائه هم بانثر بيور ودانيال أبور مادة سينمائية جيدة أدت إلى انتقاء المخرجين لهم من وسط 3،500 سوداني أخر تم نقلهم إلى الولايات المتحدة.
فقد كان مخرج الفيلم كريستوفر كوين واقفا داخل معسكر كاكوما بينما الناس يتزاحمون على قائمة أسماء المهاجرين عندما بادره جون، الذي كان قد تم اختياره للسفر إلى الولايات المتحدة قبلا، بالسؤال "ماذا سيحدث لأصدقائي الذين سيبقون في المعسكر؟" وقد جعل هذا السؤال من جون بطلا للفيلم في تلك اللحظة.
وعند وصوله إلى أمريكا حصل جون على عمل منخفض الأجر تلو الآخر: عامل في مصنع، طباخ للهامبرجر، وحارس ليلي. ألا أنه داوم على إرسال المال إلى اللاجئين في المعسكر. كما أنه ساعد على إنشاء جمعية لاربحية صغيرة في كنيسته المحلية تدعى "التغيير المباشر" جمعت 180 ألف دولار لبناء عيادة طبية بالمعسكر، سيبدأ العمل على إنشائها الأسبوع القادم. ويقول جون بفخر "إنني أتطلع إلى إمكان نسائنا وضع أطفالهن في مستشفى."
أن فيلم "الله تعب منا" الحاصل على الجائزة الأولى وجائزة المشاهدين في مهرجان صندانس للأفلام، ويضفي سمة إنسانية على الحرب الأهلية في السودان. "لكل شيء نهاية" يقول جون بينما تسرد نظرات عينه الحزينة الحقيقة المرة بأن المأساة لم تنتهي بالرغم من شجاعته العظيمة.
الأحد، 24 فبراير 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق