الأحد، 24 فبراير 2008

نظرة مضيئة على صبية السودان التائهين
إعداد: سام برنر

عندما كان جون بول داو صبيا يافعا في الثالثة عشر من عمره، اضطرته ظروف الحرب إلى أكل الطين وشراب البول، وحفر قبور ‏ضحلة دفن فيها أغلب الأطفال الذين كان مسؤولا عنهم ممن انهاروا أثناء هروبهم من المسلحين. وكانت الضباع تأتي ليلا وتحفر ‏القبور وتستخرج الجثث لتأكلها. وقد تحمل رحلة الألف ميل وسط الأدغال والأنهار المليئة بالتماسيح والأسود هروبا من قريته في ‏جنوب السودان إلى معسكرات اللاجئين في أثيوبيا ثم كينيا بسبب الحرب الأهلية التي قضت على أكثر من مليوني شخص منذ عام ‏‏1983. ‏

يبلغ جون اليوم 34 عاما وهو مواطن أميركي يعمل حارسا في نيو يورك أثناء دراسته بجامعة سيراكروز. وهو متزوج وله ابن صغير. ‏وهو أيضا بطل الفيلم الوثائقي الدرامي الذي عرض لأول مرة في مدينة واشنطن الأمريكية يوم 19 يناير من هذا العام. "الله تعب منا" ‏من إخراج كريستوفر كوين وتومي ووكر وإنتاج مجلة "ناشونال جيوغرافيك" وتتابع قصته على مدى 85 دقيقة ثلاثة من الفتية ‏السودانيين من معسكر كاكوما الذي يقيم به ما يزيد عن 90 ألف لاجئ، إلى إعادة توطينهم بالولايات المتحدة بعد تسعة أعوام من ‏الضياع والرعب تحملوها وحدهم، دون أسرة أو أقرباء. عنوان الفيلم مستوحى من عبارة يداوم جون على ترديدها. ‏

من الصعب عدم الشعور بالذنب عندما ينتابك الضحك أحيانا أثناء العرض. فاللاجئين لا ينعمون بالرفاهية في حياتهم الجديدة، بل ‏يواجهون هنا أيضا صعوبات التأقلم على المعيشة الغربية. الخيار شيء يؤكل؟ ورق التواليت يستعمل للتنظيف؟ لا حاجة هناك إلى طبخ ‏رقائق البطاطا؟ ولكن هذه اللحظات الخفيفة هي ضوء الأمل الضروري للبقاء في حياة تكاد تجعلها المشقة مستحيلة. فالعمل المحترم ‏غير متاح، والأمريكيون يخافونهم، خاصة إذا تجمعوا في مجموعات ولكن الوحدة القاتلة والاغتراب تقود بأحد أصدقائهم إلى المصحة ‏العقلية. هناك القلق بسبب الفواتير المتراكمة وبطاقات الائتمان. وبين هذا وذاك هناك الذكريات – مرها وحلوها – من دفن الموتى في ‏كاكوما إلى المناقشات الساخنة التي اعتادوا على تسميتها مازحين بالبرلمان. ومع تكييفهم على الحياة في الغرب يبدأ القلق والهواجس، ‏وثقل الإحساس بالمسؤولية تجاه من تركوهم خلفهم: لماذا تم توطيني أنا وليس زملائي؟ هل أي من أفراد أسرتي حي يرزق؟ هل ‏سأتمكن من إعالة نفسي ومن تبقى من أهلي بالمعسكرات؟ ‏

يلتحق أبطالنا بالمدارس وهم يكدون في أكثر من وظيفة مرهقة تدفع قليلا، ‏

يقول جون بول داو بأنه يستخدم حياته في الولايات المتحدة لمساعدة الأهالي في الجنوب السوداني. فالتواصل يبقى رغم المسافات ‏والبحار، وإلا لما كان للحياة معنى. "أرفض الانهماك في المفهوم الأناني للمجتمع هنا – أنا أنا لي لي – بل أريد أن أجمع بين الأنا ‏والنحن. هذا لنا." جون واحد من 25 ألف صبي وفتاة أطلق عليهم اسم "الفتية التائهين" انتهى بهم الأمر في معسكرات اللاجئين دون ‏أمل عودتهم إلى وطنهم. وهو خجول وسكوت بطبعه ولكنه يتسم بصفات قيادية طبيعية جعلت منه ومن اثنين من رفقائه هم بانثر بيور ‏ودانيال أبور مادة سينمائية جيدة أدت إلى انتقاء المخرجين لهم من وسط 3،500 سوداني أخر تم نقلهم إلى الولايات المتحدة. ‏

فقد كان مخرج الفيلم كريستوفر كوين واقفا داخل معسكر كاكوما بينما الناس يتزاحمون على قائمة أسماء المهاجرين عندما بادره جون، ‏الذي كان قد تم اختياره للسفر إلى الولايات المتحدة قبلا، بالسؤال "ماذا سيحدث لأصدقائي الذين سيبقون في المعسكر؟" وقد جعل هذا ‏السؤال من جون بطلا للفيلم في تلك اللحظة. ‏

وعند وصوله إلى أمريكا حصل جون على عمل منخفض الأجر تلو الآخر: عامل في مصنع، طباخ للهامبرجر، وحارس ليلي. ألا أنه ‏داوم على إرسال المال إلى اللاجئين في المعسكر. كما أنه ساعد على إنشاء جمعية لاربحية صغيرة في كنيسته المحلية تدعى "التغيير ‏المباشر" جمعت 180 ألف دولار لبناء عيادة طبية بالمعسكر، سيبدأ العمل على إنشائها الأسبوع القادم. ويقول جون بفخر "إنني أتطلع ‏إلى إمكان نسائنا وضع أطفالهن في مستشفى." ‏

أن فيلم "الله تعب منا" الحاصل على الجائزة الأولى وجائزة المشاهدين في مهرجان صندانس للأفلام، ويضفي سمة إنسانية على الحرب ‏الأهلية في السودان. "لكل شيء نهاية" يقول جون بينما تسرد نظرات عينه الحزينة الحقيقة المرة بأن المأساة لم تنتهي بالرغم من ‏شجاعته العظيمة. ‏


ليست هناك تعليقات: