الأحد، 24 فبراير 2008

رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الجزء الأول

وصل الصحفي البريطاني جورج روجر إلى جبال النوبة عام 1949 محاولة منه الهروب من أحوال الحرب العالمية الثانية التي كان يعمل مصورا صحفيا أثنائها. فبعد "قضاء وقت طويل أحاول فيه التقاط صور جيدة لجثث الموتى بمعسكرات الاعتقالات الألمانية" كما قال، ذهب روجر إلى أفريقيا ليصور أسلوبا مختلفا للحياة - "حيث يمكنني أن أغتسل من وسخ الحرب وصراخ الجرحى وأنين من يقاربون الموت. كنت أبحث عن مكان نظيف لم تلوثه الأحقاد القاتلة - ووجدته وسط القبائل الأفريقية."

المصور جورج روجر (1908 – 1995)بدأ روجر رحلته حول أفريقيا أوائل عام 1948، ترافقه زوجته سيسلي، بحثا عن البراءة الشافية لجروح الغرب النفسية وعن بشرية لم تدنسها الحضارة. "أرى نهاية الاستعمار وأود أن أصور ما تبقى من أفريقيا الأم العجوز التي يسبق فيها حكم الحراب حكومات أقلام الحبر والبيروقراطية" كتب روجر في مذكراته عن تلك الفترة. أراد تسجيل العلاقة المرهفة بين الطبيعة والإنسان مدركا مدى هشاشة تلك العلاقة وكونها تتلاشى أمام أعينه. فطالما ترك الاستعمار قلب أفريقيا دون تدخل كبير في طريقة معيشة أهلها مستغلا القارة كمخزن موارد ضخم، فإن انسحاب الأوربيين منها كان يعني لروجر بأن وقت التغيير والتقدم قد حان وقد جعله ذلك أكثر شغفا بتوثيق كل ما يمكن تصويره من المجتمعات التقليدية في تلك القارة.

ومع أنه يصعب التخيل بأن روجر كان على علم لمدى التغيير الذي سيطرأ على أفريقيا في السنوات الخمسين التالية لرحلته ألا أن صوره لا تزال تشهد على تلك الفترة الواقعة على حدود "التحديث العظيم" الذي بدأ قبيل الحرب العالمية الثانية.
لم يكن روجر سعيدا بالطريقة التي بدأت بها رحلته فقد تزامن وجوده في جنوب أفريقيا مع فوز حزب جنوب أفريقيا القومي العنصري بقيادة الدكتور مالان، فتركها مسرعا إلى محمية كروجر ومنها إلى يوغندا حيث قام بتصوير عرس لقبيلة الكاباكا، ثم عدة مشاريع بريطانية فاشلة للفول في تانزانيا إضافة إلى توثيق بعض من أسوأ مشاهد استغلال الأوربيين للأفارقة والمتمثل في منجم الماس في شينيانقا. ألا أن أقرب الفترات إلى قلبه كانت تلك التي قضاها مع القبائل الأفريقية الأصلية: الخوصا والأمانقواي في جنوب أفريقيا، الواكانجو والبيشيمبوري في يوغندا، وأخيرا الدينكا والنوبة في السودان.

كان روجر يعتبر نفسه كاتبا أكثر منه مصورا، وما كانت الكاميرا سوى طريقة لدعم ملاحظاته الدقيقة التي كان يرسلها مع أفلامه الخام إلى مجلات مثل ((ناشونال جغرافيك)) و((لايف)) و((ويكلي إيلوسترايتيد)) كسبا للمال الضروري لتمويل رحلاته حول العالم. ولم يكن لروجر أن يرى أعماله إلا بعد سنوات من نشرها ولكن ذاكرته ودقة توثيقه لكل ما مرت به من أحداث – وقد كان يطبع مذكراته يوميا على آلة كاتبة محمولة – ساعدته على الاحتفاظ بخيوط المقالات التي كان يرسلها على حلقات إلى تلك المجلات. لذلك كان التقاط الصور بالنسبة له دائما جزء من القصة وليس هدفا في حد ذاته، فلم يلق بالا كبيرا لسمعته كمصور صحفي بل إعتبر صوره شرحا إضافيا لأساليب الحياة المعقدة التي كان يحاول سردها على قرائه من الغربيين، باذلا كل جهوده في صقل النص الذي كان يؤلفه.

قضى روجر وزوجته فترة أسبوعين في جبال النوبة امتدت من 21 فبراير وحتى 3 مارس 1949. وكاد العالم ألا يرى صور روجر من جبال النوبة – "أخاف ألا يتم أي شيء في هذا القطر إذا ما طبقت السودنة تماما علي إدارته" كتب روجر محبطا عشية مغادرته إلى كردفان، مشيرا إلى صعوباته البيروقراطية التي واجهت محاولات دخوله إلى تلك المنطقة. وقد كانت زوجته سيسيلي آنذاك حاملا في أشهرها الأخيرة مما تسبب في قلق لروجر الذي أراد مغادرة السودان إلى قبرص لتضع سيسيلي مولدها. وقد إنتهت عودته بعد الرحلة إلي أوربا بكارثة شخصية، إذ أنجبت سيسلي طفلها ميتا ولاقت منيتها بعد الولادة بأسبوعين. وصدر كتاب روجر مهديا لها: "إلى سيسيلي التي كانت هذه رحلتها الأخيرة" باللغة الفرنسية عام 1955 ولم تنشر ترجمته بالإنجليزية إلا عام 1999.

يتضح لدى قراءتنا لوصف روجر للنوبة بأنهم تركوا عليه انطباعا حسنا لمودتهم وكرمهم الذين عاملوه بهما وذلك بالرغم من مدى غرابة ثقافتهم وتقاليدهم عليه. وتعتبر صور روجر لجبال النوبة أعمالا فنيا رائعة توحي بمدى احترامه لهذا الشعب، بالرغم من أنه التقط معظمها بأدوات تكاد تكون بدائية وعلى أفلام بالأبيض والأسود. ومع أن روجر كثيرا ما اعترف بعدم تلقيه أي تدريب على أيدي محترفي التصوير في زمانه، ألا أن كل اللقطات من أفلامه الثلاثين التي صورها في جبال النوبة صالحة للنشر، مما يشهد له بإبداعه في التصوير ومدى خبرته التي اكتسبها أثناء الحرب.

لم يتمكن روجر من العودة إلى جبال النوبة مرة أخرى بالرغم من رغبته الشديدة في ذلك وسفرياته في أرجاء أفريقيا الأخرى – ووقفت الحروب الأهلية والبيروقراطية وصعوبة الانتقال عائقا بينه وبين القبائل التي أحبها. وأحزنه جدا أن تجذب صوره لهم التي نشرتها العديد من المجلات العالمية اهتمام لا العالم الغربي فحسب بل والحكومة السودانية التي سارعت إلى فرض حضارتها المسلمة على تقاليد النوبة بإلزامهم الملابس ومنع مسابقات المصارعة بينهم.

وعندما نشرت مجلة ((ناشونال جغرافيك)) صورة المصارع الفائز محمولا على أكتاف منافسه في قصتها عن جبال النوبة في فبراير 1951، أثارت اللقطة فضول المصورة الألمانية ليني رايفنشتال المشهورة لكونها المصورة الشخصية للطاغية الألماني هتلر. فعرضت على روجر مبلغ ألف دولار ليعرفها على المصارع ويبوح لها بمكان القبيلة. ألا أن روجر كتب إليها يقول "إذا أخذنا بعين الاعتبار خلفية كل منا، فلا أعتقد بأن لدي ما أقوله لك." ولكنها ثابرت في سعيها خلف النوبة حتى تمكنت من زيارة المنطقة للتصوير مرتين، في 1962 و1975. ومن يشاهد صورها المنشورة في كتابيها "شعب كاو" و"آخر النوبة" أن يري مدى تأثير عمل روجر عليها. وقد ترجمت كتبها إلى مختلف لغات العالم ولاقت نجاحا كبيرا حتى في السودان حتى قامت الحكومة الحالية بحظر تداوله هناك. ولكن معالجة رايفنشتال للنوبة لا تتسم بالاحترام الذي أبداه روجر – فقد رأت فيهم أمرا مثيرا للعجب والإثارة وسعت إلى رشوتهم بالمال ليخلعوا ملابسهم ويتصارعوا أمامها. أما روجر، بالمقابل، فقد كان دائم الاهتمام بشمولية الصفات الإنسانية لكل الشعوب التقليدية ولم يتدخل أبدا بين العدسة وموضوع صورتها بل بقى شاهدا موضوعيا متعاطفا لما يصوره.

وسوف نقوم في الأعداد التالية بنشر بعض المقتطفات من كتابات روجر عن رحلته إلى جبال النوبة.

















ليست هناك تعليقات: