رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الجزء الثاني وجه أفريقيا دائم التغيير، فقد شرع التقدم والتعليم يمدان خيوطهما إلى أظلم أركانها، وبات من الممكن الشعور بهذا التحول الضخم من القاهرة شمالا إلى الراند في جنوب أفريقيا ومن لاغوس غربا إلى ميناء مومباسا شرقا. لن يمضي الكثير من الوقت حتى تصير أفريقيا التي عرفها الرحالة ليفينجستون وبرازا سوى سردا عن غياهب الماضي.
مضت أيام قبائل المحاربين العظيمة من الزولو والمساي، ويكاد ساحر القبيلة أن يتوارى هو الآخر بعدما فقد سلطته التي سعى إلى التمسك بها بشدة، وتم استبدال حكومات الشعوذة بحكومات جديدة أدواتها في إدارة الأمور الحبر والورق وحرابها الجديدة أقلام الحبر الجاف رخيصة الصنع.
ومع أن التطورات في مجال الطيران والنقل بعد الحرب العالمية الثانية وشبكات الطرق الحديثة قامت كلها على فتح المجال أمام المستكشفين، ألا أن أجزاء من أفريقيا لا يزال يصعب الوصول إليها – وهي المناطق التي شيدت الطبيعة حولها جدران طبيعية تحميها من تسلل الغرب إليها، حيث بالإمكان مشاهدة أفريقيا الحقة التي لم تتأثر بثقافة البيض وحافظت على تقاليدها العتيقة وعادات قبائلها وتراثهم.
تعتبر كردفان واحدة من هذه المناطق النائية البدائية التي يصعب الوصول إليها وتمتد على مساحة 30 ألف ميل مربع في قلب السودان غرب النيل الأبيض في بقعة خرافية غريبة الملامح تعدها الزمن، تعرف وسط السودانيين بجبال النوبة. تتسم المنطقة بالجبال الصخرية العارية الضخمة التي قد يصل ارتفاعها إلى 4 ألف قدم تطل بأشكالها العجيبة التي نحتتها تعرية الرياح والرمال العاصفة على الأودية المحيطة بها حيث تضفي الأشجار الضامرة ومجاري المياه الموسمية العميقة الجافة المزيد من الإحساس بعدم واقعية هذا المكان.
وقد أقام سكان المنطقة قراهم فوق هذه الجبال المشوهة ووسطها، إذ يسكنها اليوم حوالي 300 ألف من سكان قبائل النوبة الأفريقية الأصلية، يحيطهم القادمون الجدد من العرب والحاميين والقبائل النيلية.
من المحتمل أن يكون شعب النوبة هو أول من سكن هذه المنطقة ولو أننا نجهل أصولهم العرقية. لم يدخلوا التاريخ المدون إلا مع ظهور محمد أحمد "المختار"، أبن حافر قنوات الري في دنقلا، الذي شاء له القدر أن يصبح المهدي المنتظر. فبالرغم من وثنيتهم وإسلامه، ألا أن النوبة التحقوا برايات المهدي جنودا وساعدوه على تحرير البلاد بسرعة من الطغيان المصري. وقد هزم المهدي عام 1883 جيشا من 10 آلاف جندي مصري بقيادة الجنرال البريطاني وليام هيكس، ثم قتل الجنرال غردون على أيدي رجاله عند سقوط الخرطوم. ولم تسترجع بريطانيا البلاد إلا عام 1898 عند هزيمة المهدية في معركة أمدرمان البطولية على يد اللورد كيتشنر لتعود محكومة من الاستعمارين المصري والبريطاني معا.
كل ما نعرفه عن جبال النوبة قبل تلك الفترة الوجيزة نسبيا هو أنهم كانوا مصدرا غنيا للاتجار بالعبيد في الشرق الأوسط، فحتى الكتابات الرومانية واليونانية القديمة تذكر العبيد النوبة. وأبان فترة المهدية تعرضت المنطقة للعديد من الغارات من العرب الذين كانوا يختطفون النوبة ويبيعونهم لتجار الرقيق القادمين بقوافلهم من الشمال، لينتهي شباب النوبة صبيانا وبنات بمزادات الرقيق في مواني البحر الأحمر وبغداد وحلب. وكانت نتيجة غارات تجار الرقيق العرب أن لجأ النوبة إلى الجبال.
بقي النوبة بالجبال أكثر أمنا من العرب الغائرين أثناء فترة المهدية ولكنهم انفصلوا تماما عن العالم الذي استمرت عجلته في الدوران في الأودية الواقعة عند أقدامهم ومنفصلين عن أقربائهم الذين هربوا إلى سلاسل جبلية أخرى. ومع مرور ثلاثة قرون من الخوف والاختباء والعزلة من باقي عشائرهم، فقد النوبة مركزيتهم وطور سكان كل سلسلة منفصلة من الجبال سماتهم القبلية الخاصة بهم، ولهجات مختلفة وعادات تختلف عن عادات جيرانهم. أما اليوم فهناك 50 قبيلة مختلفة للنوبة لكل منها لغتها وكل منها على وعي بتفردها الإثني.
ومع أن السلام عم الجبال منذ بدايات القرن عندما أبطل كيتشنر تجارة الرقيق بعد هزيمته للمهدية في أمدرمان، ألا أن النوبة باقون في جبالهم مغروسون فيها مثل الصخور المكونة لها، يفضلون وعورتها على المسطحات حيث يرعي البقارة العرب جمالهم. ألا أن عزلتهم تسببت في عدم تقدمهم، فبقوا بدائيون اليوم كما كانوا منذ 300 عام مما يجعلهم حلقة وصل نادرة مع أفريقيا التي مضت.
الطريق جف – انتبهوا إلى الأفيال!
لا يسمح لأي زائر بدخول محافظة كردفان إلا بإذن رسمي من الحكومة السودانية في الخرطوم، فالمنطقة "مغلقة" جغرافيا ودبلوماسيا. وهكذا حين وصلت وزوجتي إلى حدود السودان الجنوبية قادمين من الكنغو، تملؤنا الرغبة في مشاهدة أراضي قبائل النوبة المذهلة وتصوير رياضتهم القبلية المتوحشة، كان علينا أولا أن نستسمح الحكومة السودانية الإذن. وقد صدرت التراخيص لنا سريعا من لدى المسؤولين ولم يبقى أمامنا سوى تخطي صعوبات الطريق للوصول إلى المنطقة الوعرة، الأمر الذي اكتشفنا بأنه أصعب من توقعاتنا.
قضينا وقتا طويلا نستفهم بالإشارة معظم الأحيان عن حالة الطرق المؤدية من الجنوب إلى الغرب مرورا بمنطقة السدود. فالوصول إلى كردفان مستحيل إلا أثناء بضعة أسابيع من كل عام تقع ما بين الفيضان وهطول الأمطار، فالمنطقة تحوطها مستنقعات السدود مانعة الوصول إليها بشكل ممتاز.
كان أمامنا طريقان نختار بينهما – الأول يمر غربا عبر بحر الغزال والثاني يتجه مباشرة نحو الشمال عبر محافظة أعالي النيل، وكل منهما يزيد طوله عن سبعة ألاف ونصف ميل.
علمنا – بالإشارة – من حاكم بحر الغزال أن نهرا بحر العرب واللول لم تزل فائضة وبأن علينا الانتظار خمسة أو ستة أسابيع قبل أن تصبح قابلة للعبور بالسيارات. لذلك قررنا اختيار الطريق الثاني، متبعين جريان نهر النيل إلى مدينة بور ومن هناك إلى مدينة ملكال التي – ولو أنها لا تزال داخل محافظة أعالي النيل – يمكن إعتبارها مدخلا جنوبيا إلى كردفان. وقد أخبرنا رئيس شرطة بور بأن النيل انحصرت مياهه وأنه سيكون في إمكاننا العبور في خلال أسبوعين ولكن علينا أن نستعجل لأن الأمطار باتت وشيكة الهطول وسينغلق الطريق مرة أخرى لبقية العام. وقد نصحنا وهو يودعنا "انتبهوا للأفيال".
وهكذا انطلقنا من مدينة ياي على الحدود مع الكنغو بسيارتي جيب تحملا معدات المعسكر وما يكفينا من طعام وماء وبنزين لقضاء عدة أسابيع في تلك الأدغال التي علينا اجتيازها إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وصلنا إلى جوبا بعد سفر لحوالي 100 ميل بالسيارات وهي أقرب مكان يمكن قطع النيل فيه من الطرف الغربي إلى الشرقي. ثم تابعنا النهر مرورا بأدغال كثيفة بها أشجار رائعة الجمال وتسكنها قبيلة الدينكا. كانت الطرق وحلة من جراء الفيضان الذي إنحصر لتوه ولم يكن الطمي قد جف بعد فرأينا أثار أقدام الأفيال في الوحل يبلغ عمقها أحيانا قدمين ويصعب العبور فوقها بالسيارة، فقد كانت هذه الحيوانات الضخمة تعبر الطريق ليلا نهارا لتستقي من النهر. وتذكرنا نصيحة رئيس الشرطة.
وقبيل غروب الشمس قابلنا الأفيال للمرة الأولي. لم تكن تعبر طريقنا بل تسير تجاهنا مجاورة له، يقودها ذكر ضخم الجثة رمادي اللون. وكنا حينها فوق طريق ضيق للغاية وشديد الوعورة يمر في منتصف الأحراش مما منعنا من النزول منه أو الالتفاف والعودة لإفساح الطريق أمام الحيوانات. واستمرت الأفيال في السير تجاهنا مقتربة ببطء وتصميم وكنت أعرف عنها أنها سيئة المزاج سريعة الغضب، وبأنه من الخطر بمكان محاولة التصدي لها. لذلك كان علينا إفساح الطريق بأي ثمن فقمت أنا والسائق السوداني الذي كان يقود السيارة الثانية بالولوج بهما داخل الدغل بقدر استطاعتنا، ثم فتحنا الأبواب استعدادا للركض إذا دعت الحاجة ووقفنا ننتظر بصمت.
ما كان على الأفيال غير التلويح بخراطيمها لتلامسنا وهي تمر بجوارنا ولكنها لم تفقد وقارها وتلقي علينا ولو نظرة واحدة، بل اصطفت صفا واحدا وكا عددها حوالي 30 فيلا منهم الكبير والصغير والكهل والرضيع الذي لم يبلغ ارتفاعه أكثر من 4 أقدام وسارت وهي تهز رؤوسها وكأنها شبه نائمة تزمجر بطونها متذمرة من الجوع.
بعد رحلة 500 ميل أخرى فوق طرق النهر والأدغال وصلنا إلى ملكال التي تبعد حوالي 80 ميل من حدود كردفان. كان الطريق سيئا بشكل لا يوصف، تشققت تربته القطنية السوداء التي أحرقتها الشمس كالبطيخة المتهرئة. ثم تحول الطريق رملا ناعما أملس وقامت على جانبي الطريق أشجار التبلدي الضخمة العجيبة والهجليج ونخيل الدوم وأشواك الطلح. ورأينا أثار العديد من أنواع الحيوانات في الرمال من غزلان وأفيال وزراف وأسود.
قضينا تلك الليلة على أبواب كردفان، وكانت ليلة حارة والقمر ثلثي البدر كفانا ضوءه لإقامة المعسكر دون الحاجة إلى إشعال المصابيح. وقام راعي إبل عربي جاورنا بمدنا ببعض الماء، كان مالحا ووحلا ولكنه لذيذ المذاق فشربناه مع عشاؤنا الذي تناولناه تحت سقف مرصع بالنجوم وخلدنا بعدها إلى النوم على صياح الضباع حولنا وزمجرة أسد بالمقربة منا.
الأحد، 24 فبراير 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق