الأحد، 24 فبراير 2008

رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الجزء الثاني

وجه أفريقيا دائم التغيير، فقد شرع التقدم والتعليم يمدان خيوطهما إلى أظلم أركانها، وبات من الممكن الشعور بهذا التحول الضخم ‏من القاهرة شمالا إلى الراند في جنوب أفريقيا ومن لاغوس غربا إلى ميناء مومباسا شرقا. لن يمضي الكثير من الوقت حتى تصير ‏أفريقيا التي عرفها الرحالة ليفينجستون وبرازا سوى سردا عن غياهب الماضي.‏

مضت أيام قبائل المحاربين العظيمة من الزولو والمساي، ويكاد ساحر القبيلة أن يتوارى هو الآخر بعدما فقد سلطته التي سعى إلى ‏التمسك بها بشدة، وتم استبدال حكومات الشعوذة بحكومات جديدة أدواتها في إدارة الأمور الحبر والورق وحرابها الجديدة أقلام ‏الحبر الجاف رخيصة الصنع. ‏

ومع أن التطورات في مجال الطيران والنقل بعد الحرب العالمية الثانية وشبكات الطرق الحديثة قامت كلها على فتح المجال أمام ‏المستكشفين، ألا أن أجزاء من أفريقيا لا يزال يصعب الوصول إليها – وهي المناطق التي شيدت الطبيعة حولها جدران طبيعية ‏تحميها من تسلل الغرب إليها، حيث بالإمكان مشاهدة أفريقيا الحقة التي لم تتأثر بثقافة البيض وحافظت على تقاليدها العتيقة وعادات ‏قبائلها وتراثهم.‏

تعتبر كردفان واحدة من هذه المناطق النائية البدائية التي يصعب الوصول إليها وتمتد على مساحة 30 ألف ميل مربع في قلب ‏السودان غرب النيل الأبيض في بقعة خرافية غريبة الملامح تعدها الزمن، تعرف وسط السودانيين بجبال النوبة. تتسم المنطقة ‏بالجبال الصخرية العارية الضخمة التي قد يصل ارتفاعها إلى 4 ألف قدم تطل بأشكالها العجيبة التي نحتتها تعرية الرياح والرمال ‏العاصفة على الأودية المحيطة بها حيث تضفي الأشجار الضامرة ومجاري المياه الموسمية العميقة الجافة المزيد من الإحساس ‏بعدم واقعية هذا المكان. ‏

وقد أقام سكان المنطقة قراهم فوق هذه الجبال المشوهة ووسطها، إذ يسكنها اليوم حوالي 300 ألف من سكان قبائل النوبة الأفريقية ‏الأصلية، يحيطهم القادمون الجدد من العرب والحاميين والقبائل النيلية. ‏

من المحتمل أن يكون شعب النوبة هو أول من سكن هذه المنطقة ولو أننا نجهل أصولهم العرقية. لم يدخلوا التاريخ المدون إلا مع ‏ظهور محمد أحمد "المختار"، أبن حافر قنوات الري في دنقلا، الذي شاء له القدر أن يصبح المهدي المنتظر. فبالرغم من وثنيتهم ‏وإسلامه، ألا أن النوبة التحقوا برايات المهدي جنودا وساعدوه على تحرير البلاد بسرعة من الطغيان المصري. وقد هزم المهدي ‏عام 1883 جيشا من 10 آلاف جندي مصري بقيادة الجنرال البريطاني وليام هيكس، ثم قتل الجنرال غردون على أيدي رجاله عند ‏سقوط الخرطوم. ولم تسترجع بريطانيا البلاد إلا عام 1898 عند هزيمة المهدية في معركة أمدرمان البطولية على يد اللورد ‏كيتشنر لتعود محكومة من الاستعمارين المصري والبريطاني معا. ‏

كل ما نعرفه عن جبال النوبة قبل تلك الفترة الوجيزة نسبيا هو أنهم كانوا مصدرا غنيا للاتجار بالعبيد في الشرق الأوسط، فحتى ‏الكتابات الرومانية واليونانية القديمة تذكر العبيد النوبة. وأبان فترة المهدية تعرضت المنطقة للعديد من الغارات من العرب الذين ‏كانوا يختطفون النوبة ويبيعونهم لتجار الرقيق القادمين بقوافلهم من الشمال، لينتهي شباب النوبة صبيانا وبنات بمزادات الرقيق في ‏مواني البحر الأحمر وبغداد وحلب. وكانت نتيجة غارات تجار الرقيق العرب أن لجأ النوبة إلى الجبال. ‏

بقي النوبة بالجبال أكثر أمنا من العرب الغائرين أثناء فترة المهدية ولكنهم انفصلوا تماما عن العالم الذي استمرت عجلته في ‏الدوران في الأودية الواقعة عند أقدامهم ومنفصلين عن أقربائهم الذين هربوا إلى سلاسل جبلية أخرى. ومع مرور ثلاثة قرون من ‏الخوف والاختباء والعزلة من باقي عشائرهم، فقد النوبة مركزيتهم وطور سكان كل سلسلة منفصلة من الجبال سماتهم القبلية ‏الخاصة بهم، ولهجات مختلفة وعادات تختلف عن عادات جيرانهم. أما اليوم فهناك 50 قبيلة مختلفة للنوبة لكل منها لغتها وكل منها ‏على وعي بتفردها الإثني. ‏

ومع أن السلام عم الجبال منذ بدايات القرن عندما أبطل كيتشنر تجارة الرقيق بعد هزيمته للمهدية في أمدرمان، ألا أن النوبة باقون ‏في جبالهم مغروسون فيها مثل الصخور المكونة لها، يفضلون وعورتها على المسطحات حيث يرعي البقارة العرب جمالهم. ألا أن ‏عزلتهم تسببت في عدم تقدمهم، فبقوا بدائيون اليوم كما كانوا منذ 300 عام مما يجعلهم حلقة وصل نادرة مع أفريقيا التي مضت. ‏





الطريق جف – انتبهوا إلى الأفيال! ‏

لا يسمح لأي زائر بدخول محافظة كردفان إلا بإذن رسمي من الحكومة السودانية في الخرطوم، فالمنطقة "مغلقة" جغرافيا ‏ودبلوماسيا. وهكذا حين وصلت وزوجتي إلى حدود السودان الجنوبية قادمين من الكنغو، تملؤنا الرغبة في مشاهدة أراضي قبائل ‏النوبة المذهلة وتصوير رياضتهم القبلية المتوحشة، كان علينا أولا أن نستسمح الحكومة السودانية الإذن. وقد صدرت التراخيص لنا ‏سريعا من لدى المسؤولين ولم يبقى أمامنا سوى تخطي صعوبات الطريق للوصول إلى المنطقة الوعرة، الأمر الذي اكتشفنا بأنه ‏أصعب من توقعاتنا.‏

قضينا وقتا طويلا نستفهم بالإشارة معظم الأحيان عن حالة الطرق المؤدية من الجنوب إلى الغرب مرورا بمنطقة السدود. ‏فالوصول إلى كردفان مستحيل إلا أثناء بضعة أسابيع من كل عام تقع ما بين الفيضان وهطول الأمطار، فالمنطقة تحوطها ‏مستنقعات السدود مانعة الوصول إليها بشكل ممتاز.‏

كان أمامنا طريقان نختار بينهما – الأول يمر غربا عبر بحر الغزال والثاني يتجه مباشرة نحو الشمال عبر محافظة أعالي النيل، ‏وكل منهما يزيد طوله عن سبعة ألاف ونصف ميل. ‏

علمنا – بالإشارة – من حاكم بحر الغزال أن نهرا بحر العرب واللول لم تزل فائضة وبأن علينا الانتظار خمسة أو ستة أسابيع قبل ‏أن تصبح قابلة للعبور بالسيارات. لذلك قررنا اختيار الطريق الثاني، متبعين جريان نهر النيل إلى مدينة بور ومن هناك إلى مدينة ‏ملكال التي – ولو أنها لا تزال داخل محافظة أعالي النيل – يمكن إعتبارها مدخلا جنوبيا إلى كردفان. وقد أخبرنا رئيس شرطة بور ‏بأن النيل انحصرت مياهه وأنه سيكون في إمكاننا العبور في خلال أسبوعين ولكن علينا أن نستعجل لأن الأمطار باتت وشيكة ‏الهطول وسينغلق الطريق مرة أخرى لبقية العام. وقد نصحنا وهو يودعنا "انتبهوا للأفيال".‏

وهكذا انطلقنا من مدينة ياي على الحدود مع الكنغو بسيارتي جيب تحملا معدات المعسكر وما يكفينا من طعام وماء وبنزين لقضاء ‏عدة أسابيع في تلك الأدغال التي علينا اجتيازها إذا دعت الحاجة إلى ذلك. ‏

وصلنا إلى جوبا بعد سفر لحوالي 100 ميل بالسيارات وهي أقرب مكان يمكن قطع النيل فيه من الطرف الغربي إلى الشرقي. ثم ‏تابعنا النهر مرورا بأدغال كثيفة بها أشجار رائعة الجمال وتسكنها قبيلة الدينكا. كانت الطرق وحلة من جراء الفيضان الذي إنحصر ‏لتوه ولم يكن الطمي قد جف بعد فرأينا أثار أقدام الأفيال في الوحل يبلغ عمقها أحيانا قدمين ويصعب العبور فوقها بالسيارة، فقد ‏كانت هذه الحيوانات الضخمة تعبر الطريق ليلا نهارا لتستقي من النهر. وتذكرنا نصيحة رئيس الشرطة. ‏

وقبيل غروب الشمس قابلنا الأفيال للمرة الأولي. لم تكن تعبر طريقنا بل تسير تجاهنا مجاورة له، يقودها ذكر ضخم الجثة رمادي ‏اللون. وكنا حينها فوق طريق ضيق للغاية وشديد الوعورة يمر في منتصف الأحراش مما منعنا من النزول منه أو الالتفاف والعودة ‏لإفساح الطريق أمام الحيوانات. واستمرت الأفيال في السير تجاهنا مقتربة ببطء وتصميم وكنت أعرف عنها أنها سيئة المزاج ‏سريعة الغضب، وبأنه من الخطر بمكان محاولة التصدي لها. لذلك كان علينا إفساح الطريق بأي ثمن فقمت أنا والسائق السوداني ‏الذي كان يقود السيارة الثانية بالولوج بهما داخل الدغل بقدر استطاعتنا، ثم فتحنا الأبواب استعدادا للركض إذا دعت الحاجة ووقفنا ‏ننتظر بصمت. ‏

ما كان على الأفيال غير التلويح بخراطيمها لتلامسنا وهي تمر بجوارنا ولكنها لم تفقد وقارها وتلقي علينا ولو نظرة واحدة، بل ‏اصطفت صفا واحدا وكا عددها حوالي 30 فيلا منهم الكبير والصغير والكهل والرضيع الذي لم يبلغ ارتفاعه أكثر من 4 أقدام ‏وسارت وهي تهز رؤوسها وكأنها شبه نائمة تزمجر بطونها متذمرة من الجوع.‏

بعد رحلة 500 ميل أخرى فوق طرق النهر والأدغال وصلنا إلى ملكال التي تبعد حوالي 80 ميل من حدود كردفان. كان الطريق ‏سيئا بشكل لا يوصف، تشققت تربته القطنية السوداء التي أحرقتها الشمس كالبطيخة المتهرئة. ثم تحول الطريق رملا ناعما أملس ‏وقامت على جانبي الطريق أشجار التبلدي الضخمة العجيبة والهجليج ونخيل الدوم وأشواك الطلح. ورأينا أثار العديد من أنواع ‏الحيوانات في الرمال من غزلان وأفيال وزراف وأسود.‏

قضينا تلك الليلة على أبواب كردفان، وكانت ليلة حارة والقمر ثلثي البدر كفانا ضوءه لإقامة المعسكر دون الحاجة إلى إشعال ‏المصابيح. وقام راعي إبل عربي جاورنا بمدنا ببعض الماء، كان مالحا ووحلا ولكنه لذيذ المذاق فشربناه مع عشاؤنا الذي تناولناه ‏تحت سقف مرصع بالنجوم وخلدنا بعدها إلى النوم على صياح الضباع حولنا وزمجرة أسد بالمقربة منا. ‏


ليست هناك تعليقات: