رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الجزء الخامس المحاميد تجلى لنا الفرق بين طريقة حياة المحاميد وأبناء النوبة واضحا منذ اللحظات الأولى. فالنوبة الذين نادرا ما يغادرون جبالهم يشيدون أكواخا دائمة من الطين المجفف وأحيانا من الصخور، وإن اختلف مظهر هذه الأكواخ من قبيلة إلى أخرى. فأكواخ المساكين الطوال مثلا أكثرها روعة، إذ تسكن كل أسرة في خمسة أكواخ مستديرة شيدت في دائرة حول "حوش" داخلي مستدير هو الآخر ومغطاة بالجريد. ولكل كوخ فيهم وظيفة محددة، فهذا مطبخ وذاك للنوم والثالث لحفظ حبوب والرابع لتخمير "المريسة" والخامس مخزن. ويتم الدخول إلى "الحوش" من خلال فتحة مستديرة ضيقة في الجدار الداخلي لكل كوخ منهم تكاد لا تسع لإنسان بالغ. أما المحاميد فرعاة ماشية رحل وبالتالي فمساكنهم أقل تعقيدا. وهي مبنية من قصب يمكنهم جمعه من أي مكان أثناء فترة الجفاف وتجفيفه في الشمس، ثم تغطية السقف بحصائر من القش للحماية من أشعة الشمس اللاسعة.
انتهت الاحتفالات وشكرنا المك على ضيافته وكرمه بحرارة معبرين عن ضرورة عودتنا إلى معسكرنا إلا أنه طلب منا البقاء حتى نقدم لنا بعض العطايا التي جهزوها لنا – دجاجة من الشيخ إسماعيل عبد الله ودرع وهراوتان من المك شخصيا ثم دستتين من البيض من الفائز بالمركز الأول في المباراة. وعند الانتهاء من مراسيم قبول الهدايا طقطقنا أصابعنا مع الجميع وداعا وسمح لنا بمغادرة القرية ولكن بصحبة ستة من المحاربين العتاة اختارهم المك لمرافقتنا حتى سيارة الجيب، فنزلنا جميعنا إلى الوادي تتبعنا فتاة تحمل على رأسها قرعة كبيرة مليئة بالماء المسكر لنستقي منها كلما عطشنا. ولدى وصولنا إلى السيارة طقطقنا أصابعنا مرة أخرى مع كل الحاضرين وتوجهنا إلى معسكرنا.
وجدنا المعسكر لدى وصولنا أشبه بالسلخانة وكم كانت دهشتنا لرؤية الطباخ والسائق منهمكين في تقطيع أكوام من اللحم. وقد أخبرونا بحماس أن أحد التجار العرب المقيمين في المنطقة أهدانا نعجة أخرى إضافة إلى تلك التي جاء بها مك المساكين القصار، أما النعجة الثالثة فقد تركها شيخ في طريقه إلى دياره التي تبعد 125 ميلا عن رايكا معتذرا عن عدم قدرته البقاء لمسامرتنا بسبب طول السفر الذي أمامه. وفرح الشباب بوفرة الطعام هذه فذبحوا النعاج الثلاث تخوفا من أن نقوم بإطلاق أي منها عند عودتنا. ولكن هذا الكم الضخم من اللحم في درجة الحرارة العالية كان مشكلة في حد ذاتها – فمن عدم الذوق إعادة الهدية ومن الفظاظة تركها تتعفن، ولذلك أمرت الصبيان باختيار أفضل القطع لنا ولهم بما يكفينا لليوم ثم أخذت الباقي إلى مأمور رايكا شارحا له الوضع وطلبت منه أن يوزعها على فقراء القرية. وهكذا حافظ الجميع على كرامتهم.
وفي تلك الليلة زارنا مك المساكين القصار مرة أخرى وتناول معنا الشاي المحوج بالهيل (الحب هان) وجلسنا نتجاذب الحديث عن المنطقة وسكانها وسألته كيف استطاع العرب والنوبة التعايش معا بسلام بعد كل هذه العقود الطويلة من العداوة والحرب. فأجاب المك "أنك تتحدث عن زمن ولى يا أخي، زمن كان فيه العرب هم المضطهدون الناهبون تجار الرقيق. إنه عهد انتهى مع قدوم المهدية. أنا أعلم بأننا أخطأنا كثيرا في حق النوبة ولكنهم شعب يغفر بسرعة ولا يحمل الضغينة لأحد، ولا يعرف كيف يكره" مضيفا أن النوبة بشكل عام محبين للسلام وليسوا مولعين بالحرب. أما عن قبائل البقّارة التي تعيش في هذه الأرجاء، فقال أنهم عرب يجوبون الجبال مع ماشيتهم حسب المواسم، فيغادرونها إلى مراعي بحر الغزال في الصيف عندما تجف الآبار هنا ويعودون في الخريف إلى الجبال. ولكن النوبة لا يملكون ماشية بل هم مزارعون يعيشون مما يزرعونه وبالتالي فنادرا ما يترك أي منهم منطقة الجبال.
راودتنا ونحن نستمع إلى المك الرغبة في مشاهدة بعض من أوجه حياة هؤلاء العرب الرحل الذين حكا لنا عنهم والذين يتقاسمون هذه المنطقة مع قبائل النوبة فسألته عما إذا كانت هناك أية فرصة لزيارتهم، وأجابني بقوله "بإذن الله الأحد، إذا سافرتم شرقا من هنا." ورفع كوبه الصغير راشفا منه رشفة بصوت عال وهو مستغرق في التفكير، ثم أخذ نفسا عميقا مما تبقى من سيجارته ونفخ الدخان الأزرق في الليل المحيط بنا مسترداً "لقد شاهدتم المصارعة لدى الكرنغو ومباريات الهراوات عند المساكين الطوال ولكنكم لم تشاهدوا بعد أم المباريات وأكثرها إثارة... الاقتتال بالأساور." سألته أين تقام هذه المباريات وأنا أحاول جاهدا عدم ابدأ فضولي الشديد لعل يعتبرني عديم الأدب، فقال "إذا توجهتم شرقا فسوف تقابلون المحاميد وهم من البقَارة. استمروا في ذات الاتجاه وستصلون إلى مجموعتين من الجبال تعرف باسم كاو نيارو والفنجور. هذه هي المناطق التي يتبارى أهلها بالأساور." ثم تمعن في بعينيه الثاقبتان وقال "أن الشيخ الذي مر عليكم صباح اليوم وترك لكم النعجة هو شيخ كاو نيارو، عبد الرحيم ود الرضي، وهو ابن الشيخ الرضي كمبال. وقد أخبرني أنه ليرحب بكم لزيارته إن نويت الحضور إلى أراضيه." دعوة في منتهى الوضوح ولكنها في السودان تحتاج إلى عدد لا يحصى من أكواب الشاي وساعات من الحديث لإيصالها.
في صباح اليوم التالي توجهنا بسيارتينا في اتجاه الشمس الشارقة نحو جبال كاو نيارو والفنجور المنفردة عن بقية الجبال لمشاهدة مباريات الأساور وسط أكثر قبائل النوبة بدائية. وهذا الطريق أيضا م يكن سوى درب صعب المراس مليء بالحفر الضخمة والخنادق التي حفرتها مياه السيول في فصل الخريف والتي وإن كانت جافة تماما الآن ألا أن ذلك لم يجعلها أسهل عبورا، ثم رمال ناعمة وحلنا فيها حتى أبواب السيارة مرارا واضطررنا إلى جر العربة منها بعد رفعها بالرافعة، وصخور أشكالا وألوان – المسطح منها والبارز والأملس والخشن – كل ما للقلب أن يتمناه من عوائق عدا الأنهار، فالمنطقة في هذه الفترة من العام جافة محروقة بأشعة الشمس تعصف بكثبانها الرياح الساخنة وتغمغم فيها رمال الكثبان.
وأخيرا شاهدنا خيم المحاميد المنصوبة حول بئر فيها بعض الماء، فقررنا أن نعسكر معهم ونقضي ليلتنا في جوارهم. وعند اقترابنا منهم خرج الرجال للقائنا بينما اختفى الأطفال والنساء عن الأنظار. كان رجالهم متحفظين وقورين - على غير شاكلة النوبة الذين تشعرك تصرفاتهم التلقائية وبساطتهم مباشرة بأنك واحد منهم – ألا أن ترحابهم بنا كان صادقا. ولمعرفتهم بمدى عطشنا بعد هذه الرحلة الشاقة قاموا بسرعة بإحضار أحدى أبقارهم وحلبها أمامنا في قرعة عميقة ثم قدموا الحليب إلى أولا فتناولته بعد شكرهم بوضع كف يدي اليمنى على صدري ورشفت عدة رشفات كما فعلت زوجتي بعدى وأعدنا القرعة إلى الشيخ حتى لا نبدو جشعين متلهفين. فتناولها وتذوق الحليب ومررها إلى من كان بجواره الذي رشف منها وهكذا حتى دارت القرعة على الجميع عدة مرات علما بأن الرجال لم يشربوا منها إلا القليل ليبقى ما يكفى لنا. وبعد أن فرغت القرعة ورميت جانبا وجهت لنا الدعوة لقضاء الليلة في كوخ من قصب جاف، قبلناها شاكرين إذ بلغ الإرهاق منا حدا يصعب معه نصب خيمتنا.
كما أن النظام الغذائي لكلا القبيلتين يختلف أيضا فالمحاميد يقتاتون من منتجات أبقارهم من حليب طازج ورائب وجبن وسمن، بينما يأكل النوبة من نتاج الأرض التي يزرعونها بالذرة والخضروات ولا يأكلون لحم الغنم أو الخراف إلا في المناسبات الخاصة.
ألا أن الاختلاف الأكبر بين الشعبين هو الدين، إذ أن المحاميد عرب مسلمين والنوبة في معظمهم وثنيون. وعلى كل فقد لا يكون النوبة بحاجة إلى أي دين لأنهم بطبيعة حالهم طيبون ودودون أمناء يعيشون حياتهم بحرية بعيدا عن التعقيدات والقيود. فعلى سبيل المثال ليس هناك لدى النوبة ما يربط شخصان بالزواج شرعا عدا كلمة الموافقة المتبادلة بين الطرفين. فإذا أحب رجل امرأة وبادلته المشاعر يبني لها كوخا ويعيشان معا، وتعتبرهما باقي القبيلة زوجين. فإذا حبلت منه سريعا فهذا أمر جيد لأن الأطفال يساعدون الكبار في الزراعة وجلب الماء وأعمال المنزل. أما إذا نضب الحب، انفصل الزوجان عن بعض ويطوي الأمر النسيان، ألا أن ذلك نادرا ما يحدث لأن من سمات النوبة الإخلاص والوفاء.
احتفل بنا المحاميد تلك الليلة بإقامة حفل راقص، فوضعوا مقعدين لنا أمام الكوخ في ضوء القمر بينما تجمع حولنا حوالي 300 شخص. كان الجو مرحا دون الحاجة إلى تناول المسكرات أو رعد الطبول البربرية بل أن احتفالات المحاميد أكثر اتزانا وتعقلا من النوبة. تجمع العازفين بالناي والأصناج والدفوف التي شرعوا في دقها بأطراف أصابعهم ووقفوا في مواجهة الجمهور المتفرج ثم بدءوا في عزف نغمات سريعة الإيقاع. وظهرت الراقصات وكلهن من الفتيات غير المتزوجات، ولم يكن ما قمن به رقصا بمعنى الكلمة بل ترنحا ودورانا على إيقاع الموسيقى وقد الصقن أذرعتهن بأجسادهن بتشنج، ورمين برؤوسهن مغلقة العينين إلى الخلف واهتزت صدورهن. ثم اقتربت كل منهن إلى على حدة وسط الزغاريد العالية الرنانة وانحنت فوقي حتى قارب وجهها وجهي رامية بضفائرها الطويلة السوداء يسرة ويمنة تمسحه بها في ما يسميه هؤلاء العرب "شبالا". وعند انتهاء العرض تزاحم الجميع للمشاركة في الرقص والغناء فتمنينا لهم ليلة سعيدة وخلدنا إلى النوم في الكوخ المحضر لنا.
استيقظت عند الفجر ينتابني شعور بأن أمر سيء على وشك الحدوث وإذا بي أشاهد رجلا راكعا بجانب فراش زوجتي مديرا ظهره إلي. حاولت بهدوء أن أتلمس طريقي إلى الحربة التي كان طباخي يضعها بجانبي كل ليلة تحسبا للظروف وأنا أفكر بأنني لو قبضت عليها دون أن يشعر بي الرجل ستكون أمامي فرصة جيدة للدفاع عنا. ألا أنني لم أتمكن من ذلك لكوني متلحفا بالغطاء، فجلست بهدوء وإذا بي أسمعه يتمتم بالعربية "أصحي، الصباح أصبح." ومددت رقبتي لأرى ما يفعل فرأيته يحمل قرعة مليئة بالحليب الطازج تغطيه الرغوة وشعرت بمنتهى الخجل لعدم ثقتي في المحاميد واعتباري ظهره هدفا جيدا لحربتي. تمددت على الفراش فشعر بحركتي واستدار نحوي بالقرعة قائلا "الحمد لله الصباح طلع علينا." تناولتها منه وشربت وشربت منها زوجتي بعد أن أيقظتها أصواتنا.
أن للمحاميد وأبناء النوبة ثلاثة خصائص مشتركة هي الكرم والضيافة والطيبة. وقد كان شكرنا للمحاميد على استضافتنا شكرا من القلب. لقد حان وقت الوداع والاستمرار في رحلتنا نحو جبال قبيلة الكاو.
الأحد، 24 فبراير 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق