الأحد، 24 فبراير 2008

رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الجزء الخامس

المحاميد

انتهت الاحتفالات وشكرنا المك على ضيافته وكرمه بحرارة معبرين عن ضرورة عودتنا إلى معسكرنا إلا أنه طلب ‏منا البقاء حتى نقدم لنا بعض العطايا التي جهزوها لنا – دجاجة من الشيخ إسماعيل عبد الله ودرع وهراوتان من المك ‏شخصيا ثم دستتين من البيض من الفائز بالمركز الأول في المباراة. وعند الانتهاء من مراسيم قبول الهدايا طقطقنا ‏أصابعنا مع الجميع وداعا وسمح لنا بمغادرة القرية ولكن بصحبة ستة من المحاربين العتاة اختارهم المك لمرافقتنا ‏حتى سيارة الجيب، فنزلنا جميعنا إلى الوادي تتبعنا فتاة تحمل على رأسها قرعة كبيرة مليئة بالماء المسكر لنستقي ‏منها كلما عطشنا. ولدى وصولنا إلى السيارة طقطقنا أصابعنا مرة أخرى مع كل الحاضرين وتوجهنا إلى معسكرنا.‏

وجدنا المعسكر لدى وصولنا أشبه بالسلخانة وكم كانت دهشتنا لرؤية الطباخ والسائق منهمكين في تقطيع أكوام من ‏اللحم. وقد أخبرونا بحماس أن أحد التجار العرب المقيمين في المنطقة أهدانا نعجة أخرى إضافة إلى تلك التي جاء بها ‏مك المساكين القصار، أما النعجة الثالثة فقد تركها شيخ في طريقه إلى دياره التي تبعد 125 ميلا عن رايكا معتذرا ‏عن عدم قدرته البقاء لمسامرتنا بسبب طول السفر الذي أمامه. وفرح الشباب بوفرة الطعام هذه فذبحوا النعاج الثلاث ‏تخوفا من أن نقوم بإطلاق أي منها عند عودتنا. ولكن هذا الكم الضخم من اللحم في درجة الحرارة العالية كان مشكلة ‏في حد ذاتها – فمن عدم الذوق إعادة الهدية ومن الفظاظة تركها تتعفن، ولذلك أمرت الصبيان باختيار أفضل القطع لنا ‏ولهم بما يكفينا لليوم ثم أخذت الباقي إلى مأمور رايكا شارحا له الوضع وطلبت منه أن يوزعها على فقراء القرية. ‏وهكذا حافظ الجميع على كرامتهم.‏

وفي تلك الليلة زارنا مك المساكين القصار مرة أخرى وتناول معنا الشاي المحوج بالهيل (الحب هان) وجلسنا ‏نتجاذب الحديث عن المنطقة وسكانها وسألته كيف استطاع العرب والنوبة التعايش معا بسلام بعد كل هذه العقود ‏الطويلة من العداوة والحرب. فأجاب المك "أنك تتحدث عن زمن ولى يا أخي، زمن كان فيه العرب هم المضطهدون ‏الناهبون تجار الرقيق. إنه عهد انتهى مع قدوم المهدية. أنا أعلم بأننا أخطأنا كثيرا في حق النوبة ولكنهم شعب يغفر ‏بسرعة ولا يحمل الضغينة لأحد، ولا يعرف كيف يكره" مضيفا أن النوبة بشكل عام محبين للسلام وليسوا مولعين ‏بالحرب. أما عن قبائل البقّارة التي تعيش في هذه الأرجاء، فقال أنهم عرب يجوبون الجبال مع ماشيتهم حسب ‏المواسم، فيغادرونها إلى مراعي بحر الغزال في الصيف عندما تجف الآبار هنا ويعودون في الخريف إلى الجبال. ‏ولكن النوبة لا يملكون ماشية بل هم مزارعون يعيشون مما يزرعونه وبالتالي فنادرا ما يترك أي منهم منطقة الجبال. ‏

راودتنا ونحن نستمع إلى المك الرغبة في مشاهدة بعض من أوجه حياة هؤلاء العرب الرحل الذين حكا لنا عنهم ‏والذين يتقاسمون هذه المنطقة مع قبائل النوبة فسألته عما إذا كانت هناك أية فرصة لزيارتهم، وأجابني بقوله "بإذن الله ‏الأحد، إذا سافرتم شرقا من هنا." ورفع كوبه الصغير راشفا منه رشفة بصوت عال وهو مستغرق في التفكير، ثم أخذ ‏نفسا عميقا مما تبقى من سيجارته ونفخ الدخان الأزرق في الليل المحيط بنا مسترداً "لقد شاهدتم المصارعة لدى ‏الكرنغو ومباريات الهراوات عند المساكين الطوال ولكنكم لم تشاهدوا بعد أم المباريات وأكثرها إثارة... الاقتتال ‏بالأساور." سألته أين تقام هذه المباريات وأنا أحاول جاهدا عدم ابدأ فضولي الشديد لعل يعتبرني عديم الأدب، فقال ‏‏"إذا توجهتم شرقا فسوف تقابلون المحاميد وهم من البقَارة. استمروا في ذات الاتجاه وستصلون إلى مجموعتين من ‏الجبال تعرف باسم كاو نيارو والفنجور. هذه هي المناطق التي يتبارى أهلها بالأساور." ثم تمعن في بعينيه الثاقبتان ‏وقال "أن الشيخ الذي مر عليكم صباح اليوم وترك لكم النعجة هو شيخ كاو نيارو، عبد الرحيم ود الرضي، وهو ابن ‏الشيخ الرضي كمبال. وقد أخبرني أنه ليرحب بكم لزيارته إن نويت الحضور إلى أراضيه." دعوة في منتهى ‏الوضوح ولكنها في السودان تحتاج إلى عدد لا يحصى من أكواب الشاي وساعات من الحديث لإيصالها. ‏

في صباح اليوم التالي توجهنا بسيارتينا في اتجاه الشمس الشارقة نحو جبال كاو نيارو والفنجور المنفردة عن بقية ‏الجبال لمشاهدة مباريات الأساور وسط أكثر قبائل النوبة بدائية. وهذا الطريق أيضا م يكن سوى درب صعب المراس ‏مليء بالحفر الضخمة والخنادق التي حفرتها مياه السيول في فصل الخريف والتي وإن كانت جافة تماما الآن ألا أن ‏ذلك لم يجعلها أسهل عبورا، ثم رمال ناعمة وحلنا فيها حتى أبواب السيارة مرارا واضطررنا إلى جر العربة منها بعد ‏رفعها بالرافعة، وصخور أشكالا وألوان – المسطح منها والبارز والأملس والخشن – كل ما للقلب أن يتمناه من ‏عوائق عدا الأنهار، فالمنطقة في هذه الفترة من العام جافة محروقة بأشعة الشمس تعصف بكثبانها الرياح الساخنة ‏وتغمغم فيها رمال الكثبان. ‏

وأخيرا شاهدنا خيم المحاميد المنصوبة حول بئر فيها بعض الماء، فقررنا أن نعسكر معهم ونقضي ليلتنا في جوارهم. ‏وعند اقترابنا منهم خرج الرجال للقائنا بينما اختفى الأطفال والنساء عن الأنظار. كان رجالهم متحفظين وقورين - ‏على غير شاكلة النوبة الذين تشعرك تصرفاتهم التلقائية وبساطتهم مباشرة بأنك واحد منهم – ألا أن ترحابهم بنا كان ‏صادقا. ولمعرفتهم بمدى عطشنا بعد هذه الرحلة الشاقة قاموا بسرعة بإحضار أحدى أبقارهم وحلبها أمامنا في قرعة ‏عميقة ثم قدموا الحليب إلى أولا فتناولته بعد شكرهم بوضع كف يدي اليمنى على صدري ورشفت عدة رشفات كما ‏فعلت زوجتي بعدى وأعدنا القرعة إلى الشيخ حتى لا نبدو جشعين متلهفين. فتناولها وتذوق الحليب ومررها إلى من ‏كان بجواره الذي رشف منها وهكذا حتى دارت القرعة على الجميع عدة مرات علما بأن الرجال لم يشربوا منها إلا ‏القليل ليبقى ما يكفى لنا. وبعد أن فرغت القرعة ورميت جانبا وجهت لنا الدعوة لقضاء الليلة في كوخ من قصب ‏جاف، قبلناها شاكرين إذ بلغ الإرهاق منا حدا يصعب معه نصب خيمتنا.‏

تجلى لنا الفرق بين طريقة حياة المحاميد وأبناء النوبة واضحا منذ اللحظات الأولى. فالنوبة الذين نادرا ما يغادرون ‏جبالهم يشيدون أكواخا دائمة من الطين المجفف وأحيانا من الصخور، وإن اختلف مظهر هذه الأكواخ من قبيلة إلى ‏أخرى. فأكواخ المساكين الطوال مثلا أكثرها روعة، إذ تسكن كل أسرة في خمسة أكواخ مستديرة شيدت في دائرة ‏حول "حوش" داخلي مستدير هو الآخر ومغطاة بالجريد. ولكل كوخ فيهم وظيفة محددة، فهذا مطبخ وذاك للنوم ‏والثالث لحفظ حبوب والرابع لتخمير "المريسة" والخامس مخزن. ويتم الدخول إلى "الحوش" من خلال فتحة ‏مستديرة ضيقة في الجدار الداخلي لكل كوخ منهم تكاد لا تسع لإنسان بالغ. أما المحاميد فرعاة ماشية رحل وبالتالي ‏فمساكنهم أقل تعقيدا. وهي مبنية من قصب يمكنهم جمعه من أي مكان أثناء فترة الجفاف وتجفيفه في الشمس، ثم ‏تغطية السقف بحصائر من القش للحماية من أشعة الشمس اللاسعة. ‏

كما أن النظام الغذائي لكلا القبيلتين يختلف أيضا فالمحاميد يقتاتون من منتجات أبقارهم من حليب طازج ورائب وجبن ‏وسمن، بينما يأكل النوبة من نتاج الأرض التي يزرعونها بالذرة والخضروات ولا يأكلون لحم الغنم أو الخراف إلا في ‏المناسبات الخاصة. ‏

ألا أن الاختلاف الأكبر بين الشعبين هو الدين، إذ أن المحاميد عرب مسلمين والنوبة في معظمهم وثنيون. وعلى كل ‏فقد لا يكون النوبة بحاجة إلى أي دين لأنهم بطبيعة حالهم طيبون ودودون أمناء يعيشون حياتهم بحرية بعيدا عن ‏التعقيدات والقيود. فعلى سبيل المثال ليس هناك لدى النوبة ما يربط شخصان بالزواج شرعا عدا كلمة الموافقة ‏المتبادلة بين الطرفين. فإذا أحب رجل امرأة وبادلته المشاعر يبني لها كوخا ويعيشان معا، وتعتبرهما باقي القبيلة ‏زوجين. فإذا حبلت منه سريعا فهذا أمر جيد لأن الأطفال يساعدون الكبار في الزراعة وجلب الماء وأعمال المنزل. ‏أما إذا نضب الحب، انفصل الزوجان عن بعض ويطوي الأمر النسيان، ألا أن ذلك نادرا ما يحدث لأن من سمات ‏النوبة الإخلاص والوفاء. ‏

احتفل بنا المحاميد تلك الليلة بإقامة حفل راقص، فوضعوا مقعدين لنا أمام الكوخ في ضوء القمر بينما تجمع حولنا ‏حوالي 300 شخص. كان الجو مرحا دون الحاجة إلى تناول المسكرات أو رعد الطبول البربرية بل أن احتفالات ‏المحاميد أكثر اتزانا وتعقلا من النوبة. تجمع العازفين بالناي والأصناج والدفوف التي شرعوا في دقها بأطراف ‏أصابعهم ووقفوا في مواجهة الجمهور المتفرج ثم بدءوا في عزف نغمات سريعة الإيقاع. وظهرت الراقصات وكلهن ‏من الفتيات غير المتزوجات، ولم يكن ما قمن به رقصا بمعنى الكلمة بل ترنحا ودورانا على إيقاع الموسيقى وقد ‏الصقن أذرعتهن بأجسادهن بتشنج، ورمين برؤوسهن مغلقة العينين إلى الخلف واهتزت صدورهن. ثم اقتربت كل ‏منهن إلى على حدة وسط الزغاريد العالية الرنانة وانحنت فوقي حتى قارب وجهها وجهي رامية بضفائرها الطويلة ‏السوداء يسرة ويمنة تمسحه بها في ما يسميه هؤلاء العرب "شبالا". وعند انتهاء العرض تزاحم الجميع للمشاركة في ‏الرقص والغناء فتمنينا لهم ليلة سعيدة وخلدنا إلى النوم في الكوخ المحضر لنا. ‏

استيقظت عند الفجر ينتابني شعور بأن أمر سيء على وشك الحدوث وإذا بي أشاهد رجلا راكعا بجانب فراش ‏زوجتي مديرا ظهره إلي. حاولت بهدوء أن أتلمس طريقي إلى الحربة التي كان طباخي يضعها بجانبي كل ليلة تحسبا ‏للظروف وأنا أفكر بأنني لو قبضت عليها دون أن يشعر بي الرجل ستكون أمامي فرصة جيدة للدفاع عنا. ألا أنني لم ‏أتمكن من ذلك لكوني متلحفا بالغطاء، فجلست بهدوء وإذا بي أسمعه يتمتم بالعربية "أصحي، الصباح أصبح." ومددت ‏رقبتي لأرى ما يفعل فرأيته يحمل قرعة مليئة بالحليب الطازج تغطيه الرغوة وشعرت بمنتهى الخجل لعدم ثقتي في ‏المحاميد واعتباري ظهره هدفا جيدا لحربتي. تمددت على الفراش فشعر بحركتي واستدار نحوي بالقرعة قائلا "الحمد ‏لله الصباح طلع علينا." تناولتها منه وشربت وشربت منها زوجتي بعد أن أيقظتها أصواتنا.‏

أن للمحاميد وأبناء النوبة ثلاثة خصائص مشتركة هي الكرم والضيافة والطيبة. وقد كان شكرنا للمحاميد على ‏استضافتنا شكرا من القلب. لقد حان وقت الوداع والاستمرار في رحلتنا نحو جبال قبيلة الكاو. ‏


ليست هناك تعليقات: