رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الجزء الرابع مصارعون وسيف مقدس وعصي
بدأ التباري بين المصارعين دون أي نظام، فقد تجمع المشاهدون في ما يشبه الحلقة حول المتنافسين الذين ربضوا أزواجا يواجه كل منهم منافسه واستمروا لدقائق عدة يزمجرون كاشفين عن أسنانهم ثم فجأة تكالبوا وسط زئير المشاهدين التشجيعي. في بعض الأحيان كان أكثر من ست مباريات تأخذ مجراها في آن واحد، والمشاهدين يتزاحمون عليهم للحصول على أفضل مكان للمشاهدة وهم يهزون رماحهم استحسانا ويخلقون ضجيجا حول المكان إلى عراك صاخب لا تعرف أين ينتهي عنده دور المشاهد ويبدأ دور المستعرض. ودأب عازف الطبل على النقر بقوة متزايدة لتحميس المصارعين بينما تجول كجور القرية حاملا سوطه الجلدي ضاربا به غبار الأرض في محاولة لطرد الأرواح الشريرة. وكلما سقط أحد المصارعين أرضا انطلقت من الحناجر زمجرة تعلن فوز الآخر الذي كان يرفع عاليا على أكتاف شاب عملاق الجثة تركض أمامه الفتيات المزغردات ليدور به وسط المعجبين.
كان المشهد في رأينا متوحشا وبدائيا للغاية ولكنه أيضا شديد الإثارة.
وفجأة وصل مصارعون جدد إلى الحلبة و قامت النسوة بذر الرماد الأبيض على أجسامهم من قرع لها أعناق طويلة، ثم دارت الجعة على الجميع إعلانا ببدء المباراة التالية، فانغلقت الحلقة على ذاتها وعاد الرجال إلى الكشف عن أنيابهم واختبار قدراتهم والتصارع مرة أخرى. استمر الوضع على هذه الحالة طوال فترة العصرية الحارة، مع ارتفاع الوتيرة وكميات الجعة المشروبة مع اقتراب المغيب، ألا أن أي من المتنافسين لم يفقد أعصابه أو حاول الغش في المباراة بالرغم من ضراوتها – فبمجرد سقوط أحد الخصوم أرضا وإعلان الجمهور عن الفائز بالزئير تعود الأمور إلى الهدوء بين الخصمين ويتجاذبا الحديث والضحك والاستمتاع بباقي الاحتفالات بنفس قدر متعة الجمهور المشاهد.
تركنا القرية عند المساء عائدين إلى معسكرنا ولكن أين لنا من النوم تلك الليلة، فقد احتل سرب من نمل الشحاميط المتوحش خيامنا – وهو نمل أسود يبلغ طوله حوالي البوصة وتشبه قرصته لسعة النار. لم يكتب لنا أن نرتاح من الإثارة في قرية رايكا وسط الملايين الزاحفة ولم يكن أمامنا سوى الصعود إلى داخل سيارة الجيب ومحاولة النوم داخلها. وحين بزغت شمس الصباح اختفى النمل كما جاء. أنه نوع الزيارات التي على المسافر في أفريقيا أن يعتادها.
يبدو أن تقديرنا لمباريات المصارعة في كرنجو قد أذيع في المناطق المجاورة، لأن مك المساكين الطوال دعانا إلى قريته لمشاهدة مباراة التبارز بالعصي، وذلك حتى لا يقال أن مك القصار أكثر كرما منه. وقد أرسل لنا رسولا صيبا ليقدم الدعوة ويعتذر عن عدم قدرة المك الحضور شخصيا لزيارتنا في معسكرنا.
توجهنا في اليوم التالي إلى الجبال التي يسكنها المساكين الطوال، متخذين طريقا صخريا لا يصلح للسيارات لمسافة 10 أميال على الأقل وبعد أن تلاشت أي آثار له واصلنا الرحلة سيرا على الأقدام. أما المك بجلبابه ناصع البياض وعمته فاسمه الشيخ سليم عبد الله، وفقد خرج ليقابلنا عند بداية الوادي ومعه نائبه الشيخ اسماعيل عبد الله، وكلاهما من العرب. وبعد تبادل التحايا الرسمي جلسنا في ظل شجرة تبلدي نرتشف الشاي المخلوط بالعسل والبهارات. وعندما استعدنا قوانا ونفذت مواضيع الدردشة، شرعنا في تسلق الدرب الطويل المؤدى إلى القرية المختبئة في أعلى قمم الجبال. ألا أن المك أصر قبل كل شيء على أن نرى ((توباري))، وهو السيف المقدس لدى المساكين الطوال الذي يحتفظ به فوق أعلى قمة في المنطقة. وعند رؤيتنا إلى ما أشار إليه المك ساورتنا شكوك حول قدرتنا في الوصول إلى تلك القمة البعيدة.
كان الجو شديد الحرارة والطريق يلتوى بانحدار وسط الجلاميد التي كانت تعكس الهواء الساخن في وجوهنا. وكلما مررنا بمنازل بعض النوبة المقيمين وسط الصخور العالية خرجوا ليلقوا علينا التحية. وبالرغم من أنهم نادرا ما شاهدوا أشخاص أوربيون ألا أنهم تقدموا نحونا دون تردد وبابتسامات تصاحب الآيادى الممدودة لمصافحتنا. كانت مصافحتهم غريبة، إذ يمسكون بأطراف أصابع الشخص الآخر ثم يطرطقون أصابعهم الوسطي معا. ورأينا الشابات وقد تحلين بالأزياء الاحتفالية وهي عبارة عن خرز أحمر على جبهاتهن وشعورهن وخيط واحد من الخرز الكوبالتي الأزرق على أردافهن، وقد لون حلمات صدورهن وكسون أجسادهن بزيت السمسم حتى باتت تلتمع في ضوء الشمس الباهر. وقد أصبحت يدي اليمنى شديدة اللزوجة بعد مصافحة ثلاثين منهن مما سهل من عملية طقطقة الأصبع الأوسط أثناء تبادل التحية بشكل جيد.
سعدنا كثيرا عندما أعلن الشيخ سليم أننا سنتوقف للراحة في ظل تبلدية أخرى فقد وصلت درجة الحرارة بنا حدا لا يحتمل. وقد طلب الشيخ لنا الماء من منزل مجاور فجاءتنا به ستة فاتنات سمر يحملن على رؤوسهن قرعا عسلية اللون زينت أطرافها بأشرطة من الودع. ودار القرع من فم إلى فم فاستقى الجميع من الماء المسكر بعسل النحل البري. وجاء مضيفنا بالعناقريب التي وضعت عليها قطع أقمشة مطرزة لننال قسطا من الراحة، فتمددنا لمدة ساعة في الظل العليل نطقطق الأصابع مع كل أطفال القرية الذين جاءوا بخجل ليسلموا علينا. ولاحظنا بأن الأطفال كلهم كانوا لطفاء أصحاء نظاف ولا يتصرفون بالأسلوب المفتعل المنتشر وسط أطفال الأجناس الأكثر تطورا. وبعد أن نلنا قسطنا من الراحة داومنا السير إلى الساحة التي ستقع فيها المبارزة.
استمر الطريق الملتوى والمتعرج في الصعود بنا وبلغ بنا الإرهاق مداه ونحن نحاول السير بنفس سرعة الشيخ سليم الذي كثيرا ما اختفى جلبابه الأبيض خلف الصخور ليظهر بعد لحظات في مكان مرتفع عنا. أما الشيخ إسماعيل الذي كان بدينا بعض الشيء فقد صار في نهاية الصف سعيدا ولا شك بعدم قدرتنا على مسايرة رئيسه الرشيق. بدا لنا عدة مرات بأننا على وشك بلوغ قمة الجبل ولكننا لم نكن في الواقع حتى على مقربة منه. شعرنا بأن أرجلنا تحولت حديدا وتلاحقت أنفاسنا من التعب عندما سمعنا أخيرا صيحة من مكان ما يعلونا، وعندما تمعنا النظر رأينا المك واقفا فوق صخرة كبيرة، يرفرف جلبابه في الهواء وهو يحمل في كلتا يديه سيفا ضخما رافعا إياه عاليا فوق رأسه. كان هذا هو ((توباري))، السيف المقدس لقبيلة المساكين الطوال.
عندما وصلت إلى مكانه بعد جهد شعرت بالخجل الشديد من تعبي فالرجل كان تنفسه هادئا وكأنه لا زال جالسا تحت التبلدية، وأثارت قدرة هذا المسن على التحمل إعجابي بشدة. فقد وقف شامخا وفي كل كفيه الممدودتان سيف صدئي عتيق تآكل نصله ألا أن هذا التآكل الطويل ما كان ليمسح أصله – فما كان الشيخ يحمله كان سيفا من أيام الحملات الصليبية. وقد سألته عما يعرفه عن تاريخ هذا السلاح فقال أن كل ما لديه من علم هو أن أجداد وأجداد أجداد المساكين الطوال وجدوه في هذه الجبال عندما لجئوا إليها للمرة الأولى هروبا من تجار الرقيق، وجدوه مغروسا في الأرض في هذا المكان الذي وقفنا به فبنوا حوله ضريحا وجعلوا منه رمزا لقبيلتهم.
وضع الشيخ السيف أرضا بكثير من التقدير وعدنا أدراجنا وأنا أفكر في معنى هذا التاريخ؟ هل وصل الصليبيون حتى هذا المكان النائي أم أن أحد العرب الذين حاربوا ضدهم قد جاء بالسيف إلى كردفان؟ ألا أن الإجابة على هذا السؤال ستبقى دائما في طي المجهول!
لم يكن النزول من الجبل صعبا كالصعود وسرعان ما وصلنا إلى القرية التي كان من المخطط أن تعقد فيها مبارزة العصي. سرعان ما أعلن دق الطبول وصول المتنافسين الذين ارتدوا زيا غريبا: قبعات أشبه بالخوذات المصنوعة من الشعب المرجانية الخشنة (وقد امتشفت فيما بعد أنها مصنوعة من الصلصال الأبيض) وأجراس مربوطة حول سيقانهم وعدة قطع طويلة من الأقمشة متعددة الألوان حول وسطهم ثبتت في جهتها الخلفية ذيول الخيل. وقد اختالوا متبخترين أمامنا بنفس الطريقة التي شاهدناها في كرنجو، ألا أن المباراة هنا كانت أكثر نظاما فقد وقف المشاهدون خلفنا في شبه دائرة على مسافة من المتبارزين بينما قام المك بدور رئيس المراسم. وقد دعا اثنين من المتنافسين ليدخلوا الحلبة حيث وقفوا دون حراك لدقيقة كاملة يقيس كل منهم الآخر في انتظار إشارة من الشيخ. وحينها قفز كل منهم على أخيه بشراسة النمور مستخدمين العصي في ضرب أي مكان مكشوف من جسم الخصم كالأكتاف والأفخاذ. كانت أسلحتهم المصنوعة من خشب خفيف شديد المتانة تشبه الهراوات أكثر منها العصي ولم يكن لديهم من حماية سوى تروس مستديرة صغيرة من جلد البقر استخدموها بمنتهى المهارة في سد الضربات الموجهة لهم.
كان القتال عنيفا والسرعة لا ترحم، فما كاد رجل يسقط حتى يركض سواه ليأخذ مكانه، بينما امتلأت الحلبة سريعا بالهراوات المهشمة. جارب الرجال بضراوة باذلين كل ما أوتوا من قوة مع كل ضربة. وبعد دقائق قليلة سقط أحدهم مغشيا عليه بعد إصابته بالهراوة على رأسه فتم سحبه دون أي اعتبار ورميه في ظل شجرة السدرة ليستعيد وعيه دون أية مساعدة. فلا أحد طلب الرحمة ولا أحد رحم.
الأحد، 24 فبراير 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق