الأحد، 24 فبراير 2008

رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الجزء الرابع

مصارعون وسيف مقدس وعصي

بدأ التباري بين المصارعين دون أي نظام، فقد تجمع المشاهدون في ما يشبه الحلقة حول المتنافسين الذين ربضوا أزواجا يواجه كل ‏منهم منافسه واستمروا لدقائق عدة يزمجرون كاشفين عن أسنانهم ثم فجأة تكالبوا وسط زئير المشاهدين التشجيعي. في بعض ‏الأحيان كان أكثر من ست مباريات تأخذ مجراها في آن واحد، والمشاهدين يتزاحمون عليهم للحصول على أفضل مكان للمشاهدة ‏وهم يهزون رماحهم استحسانا ويخلقون ضجيجا حول المكان إلى عراك صاخب لا تعرف أين ينتهي عنده دور المشاهد ويبدأ دور ‏المستعرض. ودأب عازف الطبل على النقر بقوة متزايدة لتحميس المصارعين بينما تجول كجور القرية حاملا سوطه الجلدي ‏ضاربا به غبار الأرض في محاولة لطرد الأرواح الشريرة. وكلما سقط أحد المصارعين أرضا انطلقت من الحناجر زمجرة تعلن ‏فوز الآخر الذي كان يرفع عاليا على أكتاف شاب عملاق الجثة تركض أمامه الفتيات المزغردات ليدور به وسط المعجبين. ‏

كان المشهد في رأينا متوحشا وبدائيا للغاية ولكنه أيضا شديد الإثارة.‏

وفجأة وصل مصارعون جدد إلى الحلبة و قامت النسوة بذر الرماد الأبيض على أجسامهم من قرع لها أعناق طويلة، ثم دارت ‏الجعة على الجميع إعلانا ببدء المباراة التالية، فانغلقت الحلقة على ذاتها وعاد الرجال إلى الكشف عن أنيابهم واختبار قدراتهم ‏والتصارع مرة أخرى. استمر الوضع على هذه الحالة طوال فترة العصرية الحارة، مع ارتفاع الوتيرة وكميات الجعة المشروبة مع ‏اقتراب المغيب، ألا أن أي من المتنافسين لم يفقد أعصابه أو حاول الغش في المباراة بالرغم من ضراوتها – فبمجرد سقوط أحد ‏الخصوم أرضا وإعلان الجمهور عن الفائز بالزئير تعود الأمور إلى الهدوء بين الخصمين ويتجاذبا الحديث والضحك والاستمتاع ‏بباقي الاحتفالات بنفس قدر متعة الجمهور المشاهد.‏

تركنا القرية عند المساء عائدين إلى معسكرنا ولكن أين لنا من النوم تلك الليلة، فقد احتل سرب من نمل الشحاميط المتوحش خيامنا ‏‏– وهو نمل أسود يبلغ طوله حوالي البوصة وتشبه قرصته لسعة النار. لم يكتب لنا أن نرتاح من الإثارة في قرية رايكا وسط ‏الملايين الزاحفة ولم يكن أمامنا سوى الصعود إلى داخل سيارة الجيب ومحاولة النوم داخلها. وحين بزغت شمس الصباح اختفى ‏النمل كما جاء. أنه نوع الزيارات التي على المسافر في أفريقيا أن يعتادها.‏

يبدو أن تقديرنا لمباريات المصارعة في كرنجو قد أذيع في المناطق المجاورة، لأن مك المساكين الطوال دعانا إلى قريته لمشاهدة ‏مباراة التبارز بالعصي، وذلك حتى لا يقال أن مك القصار أكثر كرما منه. وقد أرسل لنا رسولا صيبا ليقدم الدعوة ويعتذر عن عدم ‏قدرة المك الحضور شخصيا لزيارتنا في معسكرنا.‏

توجهنا في اليوم التالي إلى الجبال التي يسكنها المساكين الطوال، متخذين طريقا صخريا لا يصلح للسيارات لمسافة 10 أميال على ‏الأقل وبعد أن تلاشت أي آثار له واصلنا الرحلة سيرا على الأقدام. أما المك بجلبابه ناصع البياض وعمته فاسمه الشيخ سليم عبد ‏الله، وفقد خرج ليقابلنا عند بداية الوادي ومعه نائبه الشيخ اسماعيل عبد الله، وكلاهما من العرب. وبعد تبادل التحايا الرسمي جلسنا ‏في ظل شجرة تبلدي نرتشف الشاي المخلوط بالعسل والبهارات. وعندما استعدنا قوانا ونفذت مواضيع الدردشة، شرعنا في تسلق ‏الدرب الطويل المؤدى إلى القرية المختبئة في أعلى قمم الجبال. ألا أن المك أصر قبل كل شيء على أن نرى ((توباري))، وهو ‏السيف المقدس لدى المساكين الطوال الذي يحتفظ به فوق أعلى قمة في المنطقة. وعند رؤيتنا إلى ما أشار إليه المك ساورتنا شكوك ‏حول قدرتنا في الوصول إلى تلك القمة البعيدة.‏

كان الجو شديد الحرارة والطريق يلتوى بانحدار وسط الجلاميد التي كانت تعكس الهواء الساخن في وجوهنا. وكلما مررنا بمنازل ‏بعض النوبة المقيمين وسط الصخور العالية خرجوا ليلقوا علينا التحية. وبالرغم من أنهم نادرا ما شاهدوا أشخاص أوربيون ألا أنهم ‏تقدموا نحونا دون تردد وبابتسامات تصاحب الآيادى الممدودة لمصافحتنا. كانت مصافحتهم غريبة، إذ يمسكون بأطراف أصابع ‏الشخص الآخر ثم يطرطقون أصابعهم الوسطي معا. ورأينا الشابات وقد تحلين بالأزياء الاحتفالية وهي عبارة عن خرز أحمر على ‏جبهاتهن وشعورهن وخيط واحد من الخرز الكوبالتي الأزرق على أردافهن، وقد لون حلمات صدورهن وكسون أجسادهن بزيت ‏السمسم حتى باتت تلتمع في ضوء الشمس الباهر. وقد أصبحت يدي اليمنى شديدة اللزوجة بعد مصافحة ثلاثين منهن مما سهل من ‏عملية طقطقة الأصبع الأوسط أثناء تبادل التحية بشكل جيد. ‏

سعدنا كثيرا عندما أعلن الشيخ سليم أننا سنتوقف للراحة في ظل تبلدية أخرى فقد وصلت درجة الحرارة بنا حدا لا يحتمل. وقد ‏طلب الشيخ لنا الماء من منزل مجاور فجاءتنا به ستة فاتنات سمر يحملن على رؤوسهن قرعا عسلية اللون زينت أطرافها بأشرطة ‏من الودع. ودار القرع من فم إلى فم فاستقى الجميع من الماء المسكر بعسل النحل البري. وجاء مضيفنا بالعناقريب التي وضعت ‏عليها قطع أقمشة مطرزة لننال قسطا من الراحة، فتمددنا لمدة ساعة في الظل العليل نطقطق الأصابع مع كل أطفال القرية الذين ‏جاءوا بخجل ليسلموا علينا. ولاحظنا بأن الأطفال كلهم كانوا لطفاء أصحاء نظاف ولا يتصرفون بالأسلوب المفتعل المنتشر وسط ‏أطفال الأجناس الأكثر تطورا. وبعد أن نلنا قسطنا من الراحة داومنا السير إلى الساحة التي ستقع فيها المبارزة. ‏

استمر الطريق الملتوى والمتعرج في الصعود بنا وبلغ بنا الإرهاق مداه ونحن نحاول السير بنفس سرعة الشيخ سليم الذي كثيرا ما ‏اختفى جلبابه الأبيض خلف الصخور ليظهر بعد لحظات في مكان مرتفع عنا. أما الشيخ إسماعيل الذي كان بدينا بعض الشيء فقد ‏صار في نهاية الصف سعيدا ولا شك بعدم قدرتنا على مسايرة رئيسه الرشيق. بدا لنا عدة مرات بأننا على وشك بلوغ قمة الجبل ‏ولكننا لم نكن في الواقع حتى على مقربة منه. شعرنا بأن أرجلنا تحولت حديدا وتلاحقت أنفاسنا من التعب عندما سمعنا أخيرا ‏صيحة من مكان ما يعلونا، وعندما تمعنا النظر رأينا المك واقفا فوق صخرة كبيرة، يرفرف جلبابه في الهواء وهو يحمل في كلتا ‏يديه سيفا ضخما رافعا إياه عاليا فوق رأسه. كان هذا هو ((توباري))، السيف المقدس لقبيلة المساكين الطوال. ‏

عندما وصلت إلى مكانه بعد جهد شعرت بالخجل الشديد من تعبي فالرجل كان تنفسه هادئا وكأنه لا زال جالسا تحت التبلدية، ‏وأثارت قدرة هذا المسن على التحمل إعجابي بشدة. فقد وقف شامخا وفي كل كفيه الممدودتان سيف صدئي عتيق تآكل نصله ألا أن ‏هذا التآكل الطويل ما كان ليمسح أصله – فما كان الشيخ يحمله كان سيفا من أيام الحملات الصليبية. وقد سألته عما يعرفه عن ‏تاريخ هذا السلاح فقال أن كل ما لديه من علم هو أن أجداد وأجداد أجداد المساكين الطوال وجدوه في هذه الجبال عندما لجئوا إليها ‏للمرة الأولى هروبا من تجار الرقيق، وجدوه مغروسا في الأرض في هذا المكان الذي وقفنا به فبنوا حوله ضريحا وجعلوا منه ‏رمزا لقبيلتهم. ‏

وضع الشيخ السيف أرضا بكثير من التقدير وعدنا أدراجنا وأنا أفكر في معنى هذا التاريخ؟ هل وصل الصليبيون حتى هذا المكان ‏النائي أم أن أحد العرب الذين حاربوا ضدهم قد جاء بالسيف إلى كردفان؟ ألا أن الإجابة على هذا السؤال ستبقى دائما في طي ‏المجهول! ‏

لم يكن النزول من الجبل صعبا كالصعود وسرعان ما وصلنا إلى القرية التي كان من المخطط أن تعقد فيها مبارزة العصي. سرعان ‏ما أعلن دق الطبول وصول المتنافسين الذين ارتدوا زيا غريبا: قبعات أشبه بالخوذات المصنوعة من الشعب المرجانية الخشنة (وقد ‏امتشفت فيما بعد أنها مصنوعة من الصلصال الأبيض) وأجراس مربوطة حول سيقانهم وعدة قطع طويلة من الأقمشة متعددة ‏الألوان حول وسطهم ثبتت في جهتها الخلفية ذيول الخيل. وقد اختالوا متبخترين أمامنا بنفس الطريقة التي شاهدناها في كرنجو، ألا ‏أن المباراة هنا كانت أكثر نظاما فقد وقف المشاهدون خلفنا في شبه دائرة على مسافة من المتبارزين بينما قام المك بدور رئيس ‏المراسم. وقد دعا اثنين من المتنافسين ليدخلوا الحلبة حيث وقفوا دون حراك لدقيقة كاملة يقيس كل منهم الآخر في انتظار إشارة من ‏الشيخ. وحينها قفز كل منهم على أخيه بشراسة النمور مستخدمين العصي في ضرب أي مكان مكشوف من جسم الخصم كالأكتاف ‏والأفخاذ. كانت أسلحتهم المصنوعة من خشب خفيف شديد المتانة تشبه الهراوات أكثر منها العصي ولم يكن لديهم من حماية سوى ‏تروس مستديرة صغيرة من جلد البقر استخدموها بمنتهى المهارة في سد الضربات الموجهة لهم. ‏

كان القتال عنيفا والسرعة لا ترحم، فما كاد رجل يسقط حتى يركض سواه ليأخذ مكانه، بينما امتلأت الحلبة سريعا بالهراوات ‏المهشمة. جارب الرجال بضراوة باذلين كل ما أوتوا من قوة مع كل ضربة. وبعد دقائق قليلة سقط أحدهم مغشيا عليه بعد إصابته ‏بالهراوة على رأسه فتم سحبه دون أي اعتبار ورميه في ظل شجرة السدرة ليستعيد وعيه دون أية مساعدة. فلا أحد طلب الرحمة ‏ولا أحد رحم. ‏


ليست هناك تعليقات: