الأحد، 24 فبراير 2008


رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الحلقة الأخيرة:‏

وصف لقتال دامي

قضينا بقية النهار نشق طريقنا بشق الأنفس فوق طرق بائسة، متجهين نحو جبال الكاو- نيارو التي وصلناها ليلا والبدر مكتمل ‏يضئ المكان وكأن الوقت نهار، وأشباح أشجار التبلدي تهز أصابعها المعقودة في وجه السماء. كان الجو حارا ورائحة أزهار ‏الفرنجيباني الحلوة تعبق بالمكان عندما قابلنا الشيخ عبد الرحمن ود الرضي على مشارف قرية الكاو المتضامة الواقعة أسفل الجبل ‏على غير عادة قرى أبناء النوبة. أخذنا الشيخ مباشرة إلى مكان فسيح تحت شجرة تين ضخمة حيث أقمنا معسكرنا.‏

كانت هدية الشيخ لنا عنزة صغيرة وسرعان ما تابعه النوبة بالهدايا – رجال عراة طوال القامة مفتولو العضلات يحملون دجاجة ‏وبيضا وبعض العسل وقربة مليئة بحليب الماعز. وانشغلوا بتنظيف المكان من أفرع التينة الساقطة وأوراقها. كانوا في غالبيتهم ‏بنفس ارتفاع قامة الكرنجو ووسامتهم ألا أنهم كانوا أفتح لونا منهم وأخف وزنا وأكثر رشاقة مما أبرز من قوة عضلاتهم الصلبة. ‏حمل كل الرجال الحراب والأنصال المصقولة وزينوا أعناقهم وأذرعهم الضخمة بأحجبة صغيرة من الجلد.‏

تناولنا الشاي مع الشيخ ود الرضي الذي أبلغنا أن مباراة الاقتتال بالأساور على وشك البدء وأن الجميع كانوا في انتظارنا وما دمنا ‏قد وصلنا بالسلامة فقد أرسل الصبية ركضا وسط الليل إلى جبل الفنجور المجاور لإخبارهم بذلك حتى يستعد محاربيهم للحضور ‏إلى كاو للمباراة المقامة بينهم وبين رجال كاو – نيارو صباح اليوم التالي. ‏

ولأننا كنا شديدو الإرهاق بعض الرحلة الشاقة التي قمنا بها فقد قرننا الخلود إلى النوم مبكرا، فتوجهنا إلى خيمتنا لنفاجأ بعملاقين ‏واقفين في ظلها على طرفي المدخل. ولم يحركا ساكنا عند مرورنا وسطهما بل بقيا واقفان مستندان على حرابهما. وبداخل الخيمة ‏كان هناك اثنان آخران قابعان أمام الباب وظهورهم مدارة لنا، خصصوا لحراستنا، تسد أجسامهم الضخمة الباب تماما وينعكس ‏ضوء القمر من سنان حرابهم وميضا محذرا.‏

كان استيقاظنا في الصباح التالي على صوت خافت لدقات الطبول أمام خيمتنا ووجدنا ثلاثة من هؤلاء العمالقة وقد لونوا أبدانهم ‏بالطين الأحمر الممزوج بزيت السمسم في نقوش خيالية، راكعين أمام الخيمة وقد وضعوا الطبول بين سيقانهم يدقون عليها ‏بأصابعهم دقات خفيفة ناعمة. تناولنا إفطارنا على صوت طبولهم وعندما وشكنا على الانتهاء جاءت ست فتيات عاريات تماما لون ‏أجسادهن بالطين الأحمر والأصفر وتدفق الدهن الذي مسحن به شعرهن من ضفائرهن الطويلة، يتمايلن في رقصة تتسم بتناسق ‏ورشاقة لم أرى لها مثيلا في أفريقيا بل أن حركة أيديهن كانت أشبه بالرقص الشرقي منه بأفريقيا. كانت كل منهن تحمل كرباجا من ‏الجلد في يدها تشده أحيانا بين ذراعيها الممدودتان وهي تقف أمامنا منفرجة الساقين. ومع ازدياد حدة الدقات وسرعتها انضم إلينا ‏محاربو الكاو اثنان وثلاثة وصاروا يقفزون في الهواء ويطلقون صرخات مخيفة متحدية في اتجاه الطبول. ‏

وأخيرا وصل الشيخ وأخبرنا بأنه قام باستدعاء المحاربين من نيارو وفنجور ليلا وبأنهم على استعداد لمواجهة محاربي الكاو، ‏فتبعناه إلى ساحة خارج القرية تحيطها صخور عالية وأشجار التبلدي، حيث جلست مجموعات المحاربين من كل قرية على حدا، ‏وسرعان علمنا أن الأمر لم يكن مجرد عرض لصالحنا بل أن كرامة القرية كانت في الميزان. ‏

تفحصت الأساور التي يستعملونها في القتال والحق يقال بأنني نادرا ما رأيت سلاحا فتاكا كهذه. فهي ثقيلة يزن كل منها رطلان ‏على الأقل ومصنوعة من النحاس، لها شفر مسنن ذو حدين ارتفاعه حوالي بوصتان قادر على شق جمجمة إنسان كما تشق البيضة ‏المسلوقة. وبالرغم من الخطر الواضح من الإصابة القاتلة فإن أي من المحاربين لم يملك درعا أو ارتدى أي شيء قد يحمي جسده ‏العاري. في واقع الأمر لم يكن أي منهم مرتديا أي شيء على الإطلاق سوى ذلك السوار القاتل وجرس نحاسي صغير مربوط ‏بالحبل حول وسطه. ‏

وبعد أن جلسنا بجوار الشيخ عبد الرحمن في ظل تبلدية كبيرة دخل المحاربون الساحة أزواجا يركضون بخطي متمايلة تجعل ‏الأجراس المربوطة في أوساطهم ترن مع خطاهم. ثم بدأ القتال: إختار شيخ عبد الرحمن رجلا من الكاو وتحداه أحد رجال الفنجور ‏وانضم إليهما في الساحة رجلان آخران يحملان عصي طويلة لفض الاشتباكات ومنع وقوع جريمة القتل في حالة سقط أحد ‏المحاربين أرضا. ‏

كان الجو متوترا ومفعما بالإثارة وسريعا ما تجمع حولنا جمهور من الرجال كبار السن يهزون حرابهم وأنصالهم المعقوفة عاليا ‏ويهتفون بينما لم تتوقف النساء عن الزغاريد ولو للحظة. أما المحاربون ذوي الأجسام الملونة فقد اختالوا في مجموعات من ثلاث ‏وأربع رجال وهم يهزون حرابهم فوق رؤوس المشاهدين، ثم وضع كل منهم سبابته بأكملها داخل فمه وأطلقوا صرخة الحرب التي ‏تجمد الدم في العروق – فوالله لم أسمع شيئا مخيفا كهذا أبدا. وحدث صخب وهرج حولنا بينما استمرت أنا وزوجتي في رشف ‏القهوة وانتظار ما ستأتي به الأحداث.‏

وأخيرا شق الشيخ عبد الرحمن طريقه وسط الزحام، وجلبابه الأبيض الناصع يتشرب زيتا مع كل ملامسة لجسد من الأجساد ‏العارية ووقف في منتصف الساحة رافعا يده. وسكت الجميع ليرتفع صوته قائلا بأن المباراة بين الكاو – تيارو والفنجور آن لها أن ‏تبدأ. وارتفع هتاف داوي من مئات الحناجر ثم دار الجمهور على أعقابهم وركضوا في اتجاه الساحة التي ستقع فيها المباراة بينما ‏تابعناهم نحن مع الشيخ عبد الرحمن بخطي أكثر هدوء. ‏

في بادئ الأمر تبارز المحاربان بعصي طويلة وهم يرقصون حول بعضهم البعض برشاقة، يخادعون ويتفادون ويندفعون بالعصي ‏نحو رؤوس منافسيهم بضربات متوحشة. وفجأة وكأن إشارة ما أعطيت لهم رمى كل المحاربان عصيهم جانبا وقفز كل منهما تجاه ‏الآخر رافعا يده المسلحة بالسوار في وجه خصمه. كان القتال متوحشا ووحشيا، تهبط الأساور فيه كهراوات فوق الرؤوس التي لا ‏يحميها شيء حتى بات بإمكاننا سماع صوت السحق المكتوم للنحاس وهو يغرس في العظم. كان الدم ينهمر من رؤوسهم ورقابهم ‏حيث سببت الأساور جروحا عميقة ولكنهما استمرا في القتال مزمجرين وقد تطاير الشرر من عيونهما وتطايرت قبضاهما في ‏الهواء بجنون. وبعد ضربة متوحشة للغاية انفك أحد المحاربين من قبضت منافسه وفي أسفل جمجمته جرح غائر طوله 4 بوصات ‏والدم ينهمر في كتلة لزجة فوق ظهره وصلبه وحتى كاحليه ولكنه مع ذلك استمر في القتال ولم يهتم أحد بجرحه أكثر مما يهتم ‏الملاكم بلكمة أسودت عينه. ‏

وأثناء مباراة ثانية تهشمت كل الأسنان الأمامية لأحد المنافسين ألا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئا – فكلما كثر الدم المسكوب كلما ‏زادت حدة القتال ولم يقف بين المنافسين والموت سوى التابعين بعصاهما. أما فوق الصخور المحيطة بالساحة كانت صرخات ‏المشاهدين المسعورة تقطع الصمت وبدأت الطبول في الدق، بينما قذفت فتيات صغيرات السن بأنفسهن وسط ساحة القتال ووقفن ‏في مواجهة الفائز الذي وضع سبابته في فمه وأطلق صرخة الحرب الثاقبة مرة أخرى. وقام الشيخ عبد الرحمن من مكانه بجوارنا ‏ودخل سريعا إلى الساحة ليعيد النظام، فصمت الجميع مرة أخرى عندما رفع يده وتم رفع رجلين من على الأرض، ثم آخرين ‏وآخرين وهكذا حتى قارب النهار على الانتهاء. ‏

وأخيرا عند المساء التفت شيخ نوري من قرية الكاو إلينا وسألني باسما "هل استمتعتم بالمباراة؟" وقد كان سؤاله بلطف لدرجة أنني ‏ما كنت لأستغرب إذا أمر رجاله بقتل بعضهم البعض في سبيل ترفيهنا. فأجبته "نعم أن رجال كاو هم أفضل المقاتلين." فاستأذن ‏مني في إنهاء المباراة وإرسال الرجال عائدين إلى قراهم – فقد انتهى عرض اليوم. ‏

توجهت الفتيات مجموعة إلى منازلهن وهن يتغنون ويتراقصون بخفة فوق الأرض الرملية، ولملم الطبالون طبالهم تحت أبطهم ‏ورحلوا نحو الجبال. أما المحاربون فغادروا ركضا، ترن الأجراس حول أجسامهم ويمسح من شقت جمجمته الجروح بالرمل لوقف ‏النزف. كانوا يتجادلون ويضحكون مع زملائهم وهم يناقشون المباراة بالتفصيل وتصرفوا وكأنهم كانوا من المشاهدين وليس ‏المشتركين الذين شبعوا ضربا. وقد زارنا أحدهم مساء في خيمتنا، لا يزال مثلث من الجلد المقطوع متدليا من قمة رأسه وهو يبتسم ‏بخجل مقدما لنا ثلاث بيضات هدية.‏

أثر في هذا التصرف الرقيق الذي تلى مباشرة عرضا من الوحشية البدائية البحتة تماما كما أثرت في المباراة. لقد غادرنا جبال ‏النوبة وأهلها الودودين الشجعان ونحن نحمل معنا ذكريات عن شعب قد يكون في أوج البدائية ولكنه يتسم بالحفاوة والكرم ‏والأخلاق والرقة أكثر بكثير من العديد الذين يعيشون في ظلمات لا تمت إلى قارة أفريقيا بشيء. ‏


ليست هناك تعليقات: