وصف لقتال دامي
رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الحلقة الأخيرة:
قضينا بقية النهار نشق طريقنا بشق الأنفس فوق طرق بائسة، متجهين نحو جبال الكاو- نيارو التي وصلناها ليلا والبدر مكتمل يضئ المكان وكأن الوقت نهار، وأشباح أشجار التبلدي تهز أصابعها المعقودة في وجه السماء. كان الجو حارا ورائحة أزهار الفرنجيباني الحلوة تعبق بالمكان عندما قابلنا الشيخ عبد الرحمن ود الرضي على مشارف قرية الكاو المتضامة الواقعة أسفل الجبل على غير عادة قرى أبناء النوبة. أخذنا الشيخ مباشرة إلى مكان فسيح تحت شجرة تين ضخمة حيث أقمنا معسكرنا.
كانت هدية الشيخ لنا عنزة صغيرة وسرعان ما تابعه النوبة بالهدايا – رجال عراة طوال القامة مفتولو العضلات يحملون دجاجة وبيضا وبعض العسل وقربة مليئة بحليب الماعز. وانشغلوا بتنظيف المكان من أفرع التينة الساقطة وأوراقها. كانوا في غالبيتهم بنفس ارتفاع قامة الكرنجو ووسامتهم ألا أنهم كانوا أفتح لونا منهم وأخف وزنا وأكثر رشاقة مما أبرز من قوة عضلاتهم الصلبة. حمل كل الرجال الحراب والأنصال المصقولة وزينوا أعناقهم وأذرعهم الضخمة بأحجبة صغيرة من الجلد.
تناولنا الشاي مع الشيخ ود الرضي الذي أبلغنا أن مباراة الاقتتال بالأساور على وشك البدء وأن الجميع كانوا في انتظارنا وما دمنا قد وصلنا بالسلامة فقد أرسل الصبية ركضا وسط الليل إلى جبل الفنجور المجاور لإخبارهم بذلك حتى يستعد محاربيهم للحضور إلى كاو للمباراة المقامة بينهم وبين رجال كاو – نيارو صباح اليوم التالي.
ولأننا كنا شديدو الإرهاق بعض الرحلة الشاقة التي قمنا بها فقد قرننا الخلود إلى النوم مبكرا، فتوجهنا إلى خيمتنا لنفاجأ بعملاقين واقفين في ظلها على طرفي المدخل. ولم يحركا ساكنا عند مرورنا وسطهما بل بقيا واقفان مستندان على حرابهما. وبداخل الخيمة كان هناك اثنان آخران قابعان أمام الباب وظهورهم مدارة لنا، خصصوا لحراستنا، تسد أجسامهم الضخمة الباب تماما وينعكس ضوء القمر من سنان حرابهم وميضا محذرا.
كان استيقاظنا في الصباح التالي على صوت خافت لدقات الطبول أمام خيمتنا ووجدنا ثلاثة من هؤلاء العمالقة وقد لونوا أبدانهم بالطين الأحمر الممزوج بزيت السمسم في نقوش خيالية، راكعين أمام الخيمة وقد وضعوا الطبول بين سيقانهم يدقون عليها بأصابعهم دقات خفيفة ناعمة. تناولنا إفطارنا على صوت طبولهم وعندما وشكنا على الانتهاء جاءت ست فتيات عاريات تماما لون أجسادهن بالطين الأحمر والأصفر وتدفق الدهن الذي مسحن به شعرهن من ضفائرهن الطويلة، يتمايلن في رقصة تتسم بتناسق ورشاقة لم أرى لها مثيلا في أفريقيا بل أن حركة أيديهن كانت أشبه بالرقص الشرقي منه بأفريقيا. كانت كل منهن تحمل كرباجا من الجلد في يدها تشده أحيانا بين ذراعيها الممدودتان وهي تقف أمامنا منفرجة الساقين. ومع ازدياد حدة الدقات وسرعتها انضم إلينا محاربو الكاو اثنان وثلاثة وصاروا يقفزون في الهواء ويطلقون صرخات مخيفة متحدية في اتجاه الطبول.
وأخيرا وصل الشيخ وأخبرنا بأنه قام باستدعاء المحاربين من نيارو وفنجور ليلا وبأنهم على استعداد لمواجهة محاربي الكاو، فتبعناه إلى ساحة خارج القرية تحيطها صخور عالية وأشجار التبلدي، حيث جلست مجموعات المحاربين من كل قرية على حدا، وسرعان علمنا أن الأمر لم يكن مجرد عرض لصالحنا بل أن كرامة القرية كانت في الميزان.
تفحصت الأساور التي يستعملونها في القتال والحق يقال بأنني نادرا ما رأيت سلاحا فتاكا كهذه. فهي ثقيلة يزن كل منها رطلان على الأقل ومصنوعة من النحاس، لها شفر مسنن ذو حدين ارتفاعه حوالي بوصتان قادر على شق جمجمة إنسان كما تشق البيضة المسلوقة. وبالرغم من الخطر الواضح من الإصابة القاتلة فإن أي من المحاربين لم يملك درعا أو ارتدى أي شيء قد يحمي جسده العاري. في واقع الأمر لم يكن أي منهم مرتديا أي شيء على الإطلاق سوى ذلك السوار القاتل وجرس نحاسي صغير مربوط بالحبل حول وسطه.
وبعد أن جلسنا بجوار الشيخ عبد الرحمن في ظل تبلدية كبيرة دخل المحاربون الساحة أزواجا يركضون بخطي متمايلة تجعل الأجراس المربوطة في أوساطهم ترن مع خطاهم. ثم بدأ القتال: إختار شيخ عبد الرحمن رجلا من الكاو وتحداه أحد رجال الفنجور وانضم إليهما في الساحة رجلان آخران يحملان عصي طويلة لفض الاشتباكات ومنع وقوع جريمة القتل في حالة سقط أحد المحاربين أرضا.
كان الجو متوترا ومفعما بالإثارة وسريعا ما تجمع حولنا جمهور من الرجال كبار السن يهزون حرابهم وأنصالهم المعقوفة عاليا ويهتفون بينما لم تتوقف النساء عن الزغاريد ولو للحظة. أما المحاربون ذوي الأجسام الملونة فقد اختالوا في مجموعات من ثلاث وأربع رجال وهم يهزون حرابهم فوق رؤوس المشاهدين، ثم وضع كل منهم سبابته بأكملها داخل فمه وأطلقوا صرخة الحرب التي تجمد الدم في العروق – فوالله لم أسمع شيئا مخيفا كهذا أبدا. وحدث صخب وهرج حولنا بينما استمرت أنا وزوجتي في رشف القهوة وانتظار ما ستأتي به الأحداث.
وأخيرا شق الشيخ عبد الرحمن طريقه وسط الزحام، وجلبابه الأبيض الناصع يتشرب زيتا مع كل ملامسة لجسد من الأجساد العارية ووقف في منتصف الساحة رافعا يده. وسكت الجميع ليرتفع صوته قائلا بأن المباراة بين الكاو – تيارو والفنجور آن لها أن تبدأ. وارتفع هتاف داوي من مئات الحناجر ثم دار الجمهور على أعقابهم وركضوا في اتجاه الساحة التي ستقع فيها المباراة بينما تابعناهم نحن مع الشيخ عبد الرحمن بخطي أكثر هدوء.
في بادئ الأمر تبارز المحاربان بعصي طويلة وهم يرقصون حول بعضهم البعض برشاقة، يخادعون ويتفادون ويندفعون بالعصي نحو رؤوس منافسيهم بضربات متوحشة. وفجأة وكأن إشارة ما أعطيت لهم رمى كل المحاربان عصيهم جانبا وقفز كل منهما تجاه الآخر رافعا يده المسلحة بالسوار في وجه خصمه. كان القتال متوحشا ووحشيا، تهبط الأساور فيه كهراوات فوق الرؤوس التي لا يحميها شيء حتى بات بإمكاننا سماع صوت السحق المكتوم للنحاس وهو يغرس في العظم. كان الدم ينهمر من رؤوسهم ورقابهم حيث سببت الأساور جروحا عميقة ولكنهما استمرا في القتال مزمجرين وقد تطاير الشرر من عيونهما وتطايرت قبضاهما في الهواء بجنون. وبعد ضربة متوحشة للغاية انفك أحد المحاربين من قبضت منافسه وفي أسفل جمجمته جرح غائر طوله 4 بوصات والدم ينهمر في كتلة لزجة فوق ظهره وصلبه وحتى كاحليه ولكنه مع ذلك استمر في القتال ولم يهتم أحد بجرحه أكثر مما يهتم الملاكم بلكمة أسودت عينه.
وأثناء مباراة ثانية تهشمت كل الأسنان الأمامية لأحد المنافسين ألا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئا – فكلما كثر الدم المسكوب كلما زادت حدة القتال ولم يقف بين المنافسين والموت سوى التابعين بعصاهما. أما فوق الصخور المحيطة بالساحة كانت صرخات المشاهدين المسعورة تقطع الصمت وبدأت الطبول في الدق، بينما قذفت فتيات صغيرات السن بأنفسهن وسط ساحة القتال ووقفن في مواجهة الفائز الذي وضع سبابته في فمه وأطلق صرخة الحرب الثاقبة مرة أخرى. وقام الشيخ عبد الرحمن من مكانه بجوارنا ودخل سريعا إلى الساحة ليعيد النظام، فصمت الجميع مرة أخرى عندما رفع يده وتم رفع رجلين من على الأرض، ثم آخرين وآخرين وهكذا حتى قارب النهار على الانتهاء.
وأخيرا عند المساء التفت شيخ نوري من قرية الكاو إلينا وسألني باسما "هل استمتعتم بالمباراة؟" وقد كان سؤاله بلطف لدرجة أنني ما كنت لأستغرب إذا أمر رجاله بقتل بعضهم البعض في سبيل ترفيهنا. فأجبته "نعم أن رجال كاو هم أفضل المقاتلين." فاستأذن مني في إنهاء المباراة وإرسال الرجال عائدين إلى قراهم – فقد انتهى عرض اليوم.
توجهت الفتيات مجموعة إلى منازلهن وهن يتغنون ويتراقصون بخفة فوق الأرض الرملية، ولملم الطبالون طبالهم تحت أبطهم ورحلوا نحو الجبال. أما المحاربون فغادروا ركضا، ترن الأجراس حول أجسامهم ويمسح من شقت جمجمته الجروح بالرمل لوقف النزف. كانوا يتجادلون ويضحكون مع زملائهم وهم يناقشون المباراة بالتفصيل وتصرفوا وكأنهم كانوا من المشاهدين وليس المشتركين الذين شبعوا ضربا. وقد زارنا أحدهم مساء في خيمتنا، لا يزال مثلث من الجلد المقطوع متدليا من قمة رأسه وهو يبتسم بخجل مقدما لنا ثلاث بيضات هدية.
أثر في هذا التصرف الرقيق الذي تلى مباشرة عرضا من الوحشية البدائية البحتة تماما كما أثرت في المباراة. لقد غادرنا جبال النوبة وأهلها الودودين الشجعان ونحن نحمل معنا ذكريات عن شعب قد يكون في أوج البدائية ولكنه يتسم بالحفاوة والكرم والأخلاق والرقة أكثر بكثير من العديد الذين يعيشون في ظلمات لا تمت إلى قارة أفريقيا بشيء.
الأحد، 24 فبراير 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق