الأربعاء، 27 فبراير 2008

الكاتب روبرت فيسك وسيرة صدام حسين لم يكتبها ولكنها حملت اسمه

عندما علم الكاتب البريطاني والصحفي الشهير روبرت فيسك بأن كتابه عن حياة صدام حسين نال نجاحا في مصر، أقلقه الأمر بعض الشيء – فهو لم يكتب أي كتاب عن الطاغية العراقي..

يقول فيسك – وصلتني نسخة من الكتاب من صديق مصري وأنا في بيروت، ومعها رسالة خطية من سطر واحد: "روبرت، أكتبت هذا حقا؟" كان على غلاف الكتاب صورة لصدام حسين في قفص الاتهام ببغداد، مرتديا سترة دون رباط عنق ورافعا المصحف بيده اليمنى، يعلوه عنوان بالبنط العريض "صدام حسين من الميلاد إلى الاستشهاد" ثم اسم الكاتب بخط ذهبي منمق – تأليف روبرت فيسك.

272 صفحة عن حياة هتلر بغداد، تباع كالأرز في القاهرة. وقد لاحظت سريعا مشكلتين في الكتاب: الأولي أنه كان شديد التسامح مع ما قام به صدام من أعمال وحشية، ولم يعنى كثيرا بمذبحة السكان المدنيين في حلبجة، والثانية أنه كان مليئا بفقرات استخدم فيها ذاك النوع من اللغة المزخرفة التي أكرهها – مثلا "بعد رفض الأمريكان للتقرير العراقي حول الأسلحة والمقدم للأمم المتحدة، تحول دق طبول الحرب إلى ضجة متنافرة الأصوات" إلخ. هل أحتاج إلى الشرح بأن هذا ليس أسلوبي؟ فالطبول الوحيدة التي كانت تدق كانت في رأسي بسبب صدمة الاندهاش الذي أصابني لأني، ببساطة، لم أؤلف هذا الكتاب. لم يعد الأمر انتحالا لصفة المؤلف – وهو أمر شائع وسط "كتاب" القاهرة مما أدى بي إلى نشر كل ترجمات كتبي بالعربية في لبنان فور صدورها بالإنجليزية – بل تعداها إلى التزوير. "

تطلب الأمر من فيسك أن يتحرى في أمر "سر مزور القاهرة" هذا. الأمر بسيط، يا قارئي العزيز، على حد قول شارلوك هولمز. وها هو "شارلوك" فيسك يستقل الطائرة من بيروت إلى تلك المدينة التي يصفها على أنها "بيروقراطية، مخنوقة بالزحام، مفلسة، ممتعة، ينعدم فيها النظام، مذهلة ولا فائدة منها." وبمجرد وصوله يتصل فيسك بصديقه الصحفي المصري سيف نصراوي حتى يلعب دور الدكتور واتسون في مغامرته الشرلوكية هذه – وعلى بعد أمتار من فندق ماريوت الجزيرة وجد قائد سيارة الأجرة المفضل لديه، ياسر حسن، الذي طلب منه ضاحكا ذكر اسمه في مقالته بعدما حكي له فيسك عن سبب تواجده في القاهرة.

يقول فيسك "أعتقد اعتقادا راسخا بأن قائدي عربات الأجرة في القاهرة أكثر مودة ورغبة في المساعدة وتحمسا من غيرهم من المصريين بمجرد أن يفهموا سبب تواجدك في سيارتهم. وبالتالي، فعندما عرضت الكتاب على ياسر، تطلع فيه مرة واحدة ثم انطلق بنا إلى مكتب الناشر الوارد على الصفحة الأولى من الكتاب: الإبداع للنشر، 953 كورنيش النيل، مصر القديمة.

كان صباحا باكرا ونحن نصارع طوابير عربات الأجرة والأتوبيسات التي حشرت فيها البشرية بجلابيبها وذقونها، وعربات الأثرياء التي تقودها نساء كعارضات الأزياء ورجال من الطراز الذي تراه في شوارع لندن وباريس. وصلنا إلى البناية السكنية ذات الطوابق العديدة وسدت زوجة البواب المدخل علينا بجلبابها الأسود الفضفاض لتعرف من نحن، فلم نتمكن من الولوج إلى العمارة إلا عندما شاغلها طفلها الذي كان يلهو في غبار الطريق ببكائه. ولكنها تسلقت الدرج خلفنا لتتنصت علينا عندما طرقنا الباب بالدور الحادي عشر الذي علقت عليه يافطة أنيقة تقول: " دار الإبداع للصحافة والنشر والتوزيع ".

للأسف، لم تكن مديرة المكتب المحجبة تعرف شيئا عن الأمر، وأصرت بأن نشر مثل هذا الكتاب خارج عن تخصص الشركة، ثم اتصلت بصاحبة الدار التي كانت وقتها في معرض الكتاب المقام في القاهرة لتتحدث معنا. وقد أعادت صاحبة الدار علينا تأكيد مديرة المكتب بأن الدار تتخصص فقط في الأدبيات وبأنه لا علم لها عن هذا الكتاب المزور.

وبعد مناقشة بين سيف وياسر وصلا إلى النتيجة بأن عنوان الناشر مزور هو الآخر بالرغم من تسجيله حسب القانون مع دار الكتب المصرية التي تقوم على إصدار الترخيص بتوزيعه في مصر. فقرر فيسك الاستمرار في التحري بوزارة الثقافة لمعرفة إذا كان المزور – والذي عرفنا بأن اسمه هو مجدي شكري – ذكيا لدرجة أنه استخرج وثيقة قانونية لكتابه المزور من قبل حكومة مبارك المحترمة جدا للقانون..

"مش كويس كده يا مستر روبرت!" قال ياسر غاضبا "الناس في مصر حتفتكر أنت إللى كتبت الكلام ده. لازم تروح السفارة البريطانية، والحكومة بتاعتنا، والبوليس، والمخابرات!!" ضحكت وأنا أتأمل في ثقة المصريين العمياء بالسلطة بالرغم من أن كل الأدلة تشير إلى أنها فاسدة ولا فائدة منها. فمن المؤكد بأن المدعو مجدي شكري قد دفع ببعض الجنيهات لهذا وذاك من الموظفين المصريين الغلابة لتسجيل كتاب مؤلفة واحد إسمه روبرت فيسك وبالتالي لن يقوموا بأي إجراءات تجاه الموضوع. أما فيما يتعلق بالإنجليز فلن يحركوا ساكنا بشأن هذا التزوير لأن الأمر ببساطة لا يهمهم.

وصلنا إلى وزارة الثقافة، مبنى كئيب ذكرني بعهد ستالين في الاتحاد السوفياتي، تجاوره الكتبخانة التي يقع بطابقها الأول مخزن – أخاف أن أدعو المكان مكتبا – لمئات الكتب التي تملأ أرضيته وأرففه ومكاتبه ومقاعده لعدة أميال، من الأرض إلى السقف، جدران داخل جدران من روايات غرامية ودراسات في الفقه وكتب في العلوم. وفي وسط هذا الدغل من الكلمات المطبوعة جلس رجلان ملتحيان وسيدتان محجبتان كانت أحدهن تطلع في شاشة جهاز كمبيوتر عتيق مصفر اللون ومغطى بالغبار.

سألت أحد الموظفين إذا كان كتابي المفضل قد تمت الموافقة علي توزيعه من قبل الحكومة المصرية. "إللي هو بتاع روبرت فيسك؟" سألتني اللحية. "هو بعينه" هتفت. "أيوه يا أستاذ، ده إتسجل عندنا يوم 30 مايو 2007" "عندك اسم الراجل إللى سجله؟" سألناه. "للأسف لا، بس في عنوان: 13 شارع حسن رمضان في الدقي."

إنطلق "شارلوك" فيسك وصديقه سيف "واتسون" قافزين السلالم إلى الشارع حيث هتفا في وجه ياسر "الدقي!" والفرحة تملأهم. بالتأكيد وجدوا غايتهم – مزور القاهرة – وحان وقت مواجهة السيد مجدي شكري وجها لوجه. إلا أن الفرحة لم تتم – ففي ظرف لحظات وعوا بأن اسم مجدي شكري اسم شائع للغاية في مصر وهناك مئات من الرجال في مصر يحملون هذا الاسم: أحدهم كان وزير خارجية مصر سابقا وهو رجل نزيه لا يمكن أبدا أن يزور كتابا. ماذا إذا كان اسم المزور منتحلا هو أيضا؟

يسترد روبرت فيسك في الحديث "انعطفت بنا السيارة في زقاق تفوح منه الروائح الكريهة ووقفت أمام الرقم 13، الذي تبين بأنه مسجد تحت الأرض، وعند محاولتي أنا وسيف دخوله اكتشفنا بأن صلاة تقام به على جنازة أحدهم. وأفادنا البواب بأنه لا وجود لناشر في الشارع كله قائلا – وهو يشير بسبابته إلى حبال الغسيل المنتشرة خلف المسجد - بأنه يعرف السكان فردا فردا. "ده سليمان ودي أسرة ويصا وإللي هناك…" وفي تلك اللحظة خرجت من البوابة المجاورة سيدة كبيرة السن أنيقة ترتدي نظارات طبية ووقفت تستمع إلى الحديث. ثم قالت لسيف "لا، مفيش حد هنا بينشر كتب، بس كان في شاب لطيف ساكن هنا اسمه مجدي شكري.."

"قلت حضرتك اسمه مجدي شكري؟؟"

"أيوه.. بس ده ساب الحتة من يجي سنة (أي قبل أن يسجل عنوانه القديم مع الكتبخانة) ودلوقت بيشتغل عند مدبولي شارعين من هنا.."

انطلقت المجموعة بسرعة البرق خارج شارع حسن رمضان، ياسر راكنا يده على البوق وروبرت وسيف يصيحون في المارة وأصحاب عربات الكارو من نوافذ السيارة وكأن حريق اشتعل على مقربة منهم. كان هناك أمر واحد مهم وهو الوصول إلى 45 شارع البطل أحمد عبد العزيز، فرع مكتبة مدبولي بالدقي. وبعد دقائق كانوا مصفوفين أمام النافذة المليئة بالكتب الرخيصة تجاورها الدال والواو التي سقطت من يافطة "مدبولي".

يقول فيسك "وقف بباب المكتبة شاب نحيل يرتدي جاكت أصفر ذو ياقة سوداء مدخنا، أما بالداخل فقد بدا رجلان بدينان يشبهان الفتوات. بششت في وجه النحيل قائلا "أريد شراء كتاب معين" وأنا متأكد بأني أشبه بمخبر أكثر منه بقارئ كتب. "أنه سيرة حياة صدام حسين" أضفت.

"إللي بتاع روبرت فيسك؟" سألني النحيل نافثا الدخان.

"هو ده!"

تابعته إلى داخل المكتبة حيث استلمني البدين وتسلقت معه الدرج إلى قسم سير صدام حسين. وفجأة تركني مهرولا إلى تحت ثم عاد ومعه الكتاب الذي استخرجه من تحت المنضدة. "30 جنيه لو سمحت. " سددت له المال مقابل كتاب يحمل اسمي ولم أكتبه حتى في أحلامي.

سألني النحيل الذي قال بأن اسمه محمود لماذا أرغب في هذا الكتاب فقلت له أن اسمي على غلافه. "هذه بطاقتي – أنا لم أكتب هذا الكتاب مطلقا." نفثت فيهم وأنا أمد يدي. نظر إلى ثلاثتهم ثم شرعوا في الضحك بشدة ومعهم صديقي الصحفي سيف. فقد كانت لحظة مضحكة جدا، الحق يقال. وبعد أن هدأ الضحك سألت محمود إذا كان يعرف مجدي شكري؟

"أيوه أعرفه. الراجل كان زميلنا بس سابنا وساكن دلوقت في مدينة 6 أكتوبر. ممكن أديك نمرة تلفونه" اتصلت به ولكن الرقم لم يكن يعمل، فأعطاني محمود رقما غيره. ردت على سيدة، ورفضت أن تعطيني اسمها أو عنوانها قبل أن تغلق الخط في وجهي. وهز محمود كتفيه في لا مبالاة.

سألت محمود كم نسخة من الكتاب باع حتى الآن، فقال وهو يجر نفسا من سيجارة أشعلها بأن العدد حوالي المائة.

"يعني أنت مدين لي بحوالي ثلاثة آلاف جنيه" قلت وأنا مستمتع بالموقف.
"لا يا مستر روبرت، مش مدينين لك بحاجة – مش أنت إللى قلت قبل شوية إنك مش كاتب الكتاب ده؟ إزاي ندفعلك ثمن حاجة ما كتبتهاش؟" رد محمود تعلو وجهه ابتسامة متملقة.

سألت سيف إذا كان من الممكن البحث عن مجدي شكري في مدينة 6 أكتوبر فمال على قائلا "روبرت، هناك 9 مليون شخص يسكنون مدينة 6 أكتوبر." أمسكت بنسختي الثانية من سيرة صدام حسين التي تحمل اسمي – وكان محمود قد أعطى واحدة هدية لياسر الذي سعد بها كثيرا – وغادرت المكتبة عائدا إلى فندق ماريوت، حيث جلست على شرفتي أتطلع نحو الأنوار الوامضة في مدينة 6 أكتوبر وأنا متأكد بأن مجدي شكري جالس تحت أحدها يكتب سيرة تاريخية جديدة.

ما سيكون عنوانها هذه المرة، يا ترى، وما الاسم الذي سيزين غلافها بأحرف الذهبية؟؟






ليست هناك تعليقات: