الأحد، 24 فبراير 2008

رؤية جورج روجر لجبال النوبة - الجزء الثالث

دعوة من مك المساكين القصار

وفي اليوم التالي وصلنا إلى بلاد النوبة متخذين طريقا ملتويا لففته الطبيعة بشكل عجيب حول أكوام الجلاميد المتناثرة وشقت على جانبيه أشجار السم طريقها من بين الأحجار بأزهارها الوردية الشمعية بينما امتلأت الوديان بأشجار الحراز الخضراء الظليلة يقتات الإبل من قرون بذورها الصفراء المتدلية.

وأخيرا وقعت أنظارنا على قرى النوبة معلقة عاليا تعانق سفوح الجبال وكأنها نتأت منها بأكواخها المستديرة وسقوف القش التي تغطيها، وكأن يد عملاق قد جمعتها قبضة ورمت بها في الهواء لتلتصق بالصخور وتنحشر وسط شقوقها ثم عمل الريح والمناخ والزمن على دمجها مع الجبال. استوى بعضها فوق قمم جلاميد عارية وبعضها في الوهدان المنحدرة وبعضها الآخر بالكاد يلامس سفوح الجبل، بينما الأطفال يركضون ذهابا إيابا على الممرات الصخرية شديدة الانحدار وكأنهم ماعز جبلي. أما في الأودية أسفل القرى فكانت الشابات يقمن بسقي حقول التبغ الصغيرة من قرب صفراء ضخمة جلبن فيها الماء من الآبار فوق رؤوسهن.

قد يبدو رجال النوبة للوهلة الأولى جبابرة شديدو الضراوة بأجسامهم القوية ورؤوسهم المستديرة الضخمة وجبهاتهم الضيقة المقرونة. ولكنهم في واقع الأمر مسالمون ودودون يفضلون ممارسة الرياضة والترفيه عن شن الغارات ضد جيرانهم، وذلك بالرغم من أن رياضتهم تلك قد تبدو لمن هم أكثر تمدنا قاسية ضارية إلى حد بعيد. وتتخصص كل قبيلة في نوع معين من الرياضة - من رمي الرمح إلى المصارعة والاقتتال بالعصي أو – وهو أخطر أنواع ما يمارسونه منها – الاقتتال بالأساور. هذه الأخيرة، بالإضافة إلى الاقتتال بالعصي تمارس بشكل ضاري يكاد المشاركون فيها أن يلقوا حتفهم أثناء المباريات. ولكن بالرغم من ضراوة ممارساتهم الترفيهية تلك فهم شعب ودود سعيد، لا تضايقهم قلة ممتلكاتهم المادية – فلا يملك النوباوي أكثر من وعاء للطبخ و رمح – أو قلة المال الذي لا حاجة لهم إليه، ولا يشعرون بالحرج من أجسامهم العارية إذ أنهم لم يرتدوا الملابس أصلا قط. وقد يكونوا بدائيون فعلا ألا أنهم أسعد حالا من غيرهم من أقرانهم الأفارقة أنصاف المتعلمين وأنصاف العراة وكاملي الحيرة في أمرهم.

كنا معسكرون بالقرب من قرية تدعى ريكا عندما زارنا مك المساكين القصار، وهو عربي يرتدى جلبابا فضفاضا وعمة بيضاء كما هو حال بقية شعبه. وقد فوجئنا بموافقة النوبة على أن يرأسهم عربي مسلم لما لهم من تاريخ مأساوي مع العرب يتصف بالحروب وتجارة الرقيق، ولكنا اكتشفنا فيما بعد أن هذه عادة في العديد من أرجاء جبال النوبة، حيث يكون رئيس القبيلة عربيا ونائبه من أهل النوبة.

كان مك المساكين القصار مهذبا وقورا وهو يصافحنا ويرحب بنا في أرضه. وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث رأيت بطرف عيني شاة تجر رغم أنفها خلف خيمنا حيث تم ربطها بوتد. ويبدو أن الشاة كانت مدركة بأنها جزء من هذا الترحيب التقليدي إذ باتت تثغو شاكية وهي تنتظر ذبحها تكريما لحضورنا.

يعتبر بدء الحديث بالسؤال عن الأسباب الفعلية التي جاءت بنا إلى كردفان أمرا لا يدل على الأدب، كما لا يجوز ابدأ الفضول الشديد بشؤون الزوار، لذلك دأب المك على سؤالنا أولا عما إذا كانت رحلتنا قد انقضت على خير، وإذا كان الطريق سهلا والأيام التي قضيناها على سفر ليست بطويلة. ولم يسألنا البتة من أين أتينا أو إلى أين نحن ذاهبون. وقد أجبناه بردود مبهمة وسألناه بدورنا عما إذا كان الحصاد جيدا والمطر وفيرا. "الحمد لله، كل شيء تمام" أجاب المك، ألا أنني متأكد بأنه كان سيجيب نفس هذه الإجابة لو أصاب الأرض جفاف ومجاعة طاحنة إذ ليس من الذوق التعبير عن ضيق النفس وعدم الرضا أمام شخص غريب.

جاءنا طباخي بالشاي فقضينا الدقائق العشرة التالية نتذوق هذا المشروب الساخن المسكر تصدر هنا أصوات الاستمتاع دون أن ننطق بكلمة واحدة على الإطلاق. وبعد أن تأملنا المك ووجدنا مهذبين ولسنا بالأجلاف البيض كما كان يعتقد، وبعد أن تناول شاينا، بدأ الحديث معنا بالسؤال عما إذا أعجبتنا المنطقة وهل عاملنا أهلها معاملة حسنة، فأجبته بأن الرحيب بنا كان على خير وجه كما توقعت وبأنه لم يتسبب أحد في أية مشاكل لنا. أما بالنسبة للجوار، فقد وجدناه مثيرا للاهتمام لدرجة رغبنا فيها قضاء بعض الوقت به بالرغم من أن وقتنا كا ضيقا، والتقاط بعض الصور للقرية وأهاليها. ثم سألت المك عما إذا كان هناك ما يعتقد أنه جدير بالمشاهدة فقال أن سبرا سيقام في جوار جبال الكرنغو وبأنه يرحب بنا ضيوفا عليه إذا رغبنا في مشاهدته. أما السبر (وهي كلمة عربية) فهو - كما شرح لنا المك - تجمع احتفالي للنوبة يكاد دائما أن يشتمل على استعراض لقواهم البدنية. ولأن الكرنغو هم الأقوى بنية من بين كل قبائل النوبة فهم أيضا من خيرة المصارعين في المنطقة.

كانت الدعوة فرصة لنا لمشاهدة ما جئنا لرؤيته وقطعنا المسافات الطوال لتصويره – الرياضة القبلية عند النوبة. لذلك قبلنا الدعوة دون نقاش ونحن مدركين بأن المك ما كان لدعانا إلى السبر ما لم يتأكد قبلا من اهتمامنا الفعلي به وبأنه سيقوم على ترتيب الاحتفال على أفضل وجه لأن ذلك من صفات الكرم والضيافة عند النوبة.

كان الصباح قد انتصف وارتفعت درجة الحرارة التي لا ترحم عندما بدأ السبر تحت ظلال أشجار الحجليج في الوادي الواقع أسفل قرية برام. كان المصارعون جالسون في الظل يتجاذبون الحديث بهدوء عند وصولنا، رجال فارعي القامة فاق طول كل منهم 6 أقدام، أكتافهم عريضة ورؤوسهم حليقة لا تزينها إلا نتف صغيرة من الشعر، عراة تماما يغطي أجسامهم رماد الخشب الأبيض ليمنع قبضاتهم من الانزلاق أثناء المصارعة .

وبعد فترة من الزمن بدأت مسيرة غريبة في النزول من القرية الواقعة أعلى الجبل يقودها أحد الأهالي عاريا تماما وهو يدق طبلا ضخما، وخلفه عدد من النساء يحملن على رؤوسهن أوعية مسطحة بها أحزمة من جلد القرود مزينة بريش النعام وأساور يلبسها الرجال المتصارعون فوق أذرعهم. خلف النساء جاء المزيد من المصارعين المغطين بالرماد الأبيض ثم كل من هب ودب من القرية – رجال ونساء وأطفال، يرقصون ويتغنون ويطبلون ويهزون الرماح، كلهم عراة كما ولدوا مع أن بعضهم قد تزين بحلي أصيلة صنعوها بأنفسهم بهذه المناسبة. إحدى الفتيات مثلا ارتدت عقدا من أغطية زجاجات البيرة حول عنقها ووسطها، بينما حمل رجل ضخم الجثة طائرا محنطا من نوع البلشون (مالك الحزين) كاملا وفاردا جناحيه على ظهره. ورجل آخر غطى جسمه بأجراس نحاسية بينما وضع العديد من الرجال ريش النعام فوق رؤوسهم أو رسموا تصميمات مدهشة بالفحم على الرماد الأبيض المغطى لأجسامهم. أما النساء فقد تمسحن بزيت السمسم لتلمع أجسادهن الرشيقة في الشمس. في نهاية المسيرة إصطفت حوالي خمسون فتاة شابة تحملن فوق رؤوسهن القراع الممتلئة بمشروب المريسة وهو البيرة المحلية المصنوعة من نخيل الدوم، وهن يتراقصن على دقات الطبول دون أن تنسكب نقطة واحدة من المشروب على الأرض.

وبمجرد أن تجمع الكل انتظموا دون أن يرأسهم أحد وبدأت جوقة بربرية نوعا في العزف - أصحاب الطبول من جهة وأصحاب الأبواق المصنوعة من قرون مختلف الحيوانات من جهة. وزاد إيقاع الطبول سرعة وعلوا مع تقدم المسيرة التي انفصل المصارعون عنها وبدءوا في التقدم نحونا وهم يستعرضون عضلاتهم ويربضون، ويضدرون أصوات نخير مع كل خطوة يخطونها، في حين تركض الفتيات من حولهم وهن يطلقن الزغاريد.


ليست هناك تعليقات: