الثلاثاء، 1 أبريل 2008

الجزء الخامس – تونس



كم استغربت من مفهوم هذا الكاتب الذي طل علي من سنيات الإنترنت وأنا أقوم ببحثي عن اليهود العرب ليعلن على الملء بأن السبب الوحيد لتناوله إياهم بالبحث هو أنهم "أعداءنا". يا له من مفهوم متخلف ‏لأسباب دراسة التاريخ!‏
الجالية اليهودية لم يبدأ استقرارها في تونس - على خلاف ما يعتقده البعض - بحلول‏‎ ‎الاستعمار الفرنسي أواخر القرن التاسع عشر، وإنما استوطنت في تونس منذ قرون عديدة‏‎.. ‎‏ تعود قصة وجود ‏اليهود في تونس إلى القرن السادس قبل الميلاد، وفقا لكتب يهودية‎ ‎وعربية على حدّ سواء‎.‎‏ ووفقا لكبير حاخامات فرنسا التونسي الأصل جوزيف سيتروك، تعد قصة الوجود اليهودي‎ ‎في تونس من أعرق ‏العلامات في تاريخ هذه الطائفة، حيث أنّهم "اتخذوا من جربة ملجأ‎ ‎لهم مباشرة بعد أن قام نبوخذ نصر، ملك بابل، بتدمير الهيكل الأول عام 586 قبل‏‎ ‎الميلاد‎."‎‏ ومن جهته، يقول زعيم الطائفة في ‏جربة شلومو الطرابلسي، إنّ أعدادا "كبيرة من‎ ‎اليهود هاجروا حاملين معهم حجرا من هيكل سليمان" ومن ثمّ قاموا ببناء معبدهم‎.‎‏ ‏
وجودُ اليهود في تونس في فترة ظهورِ المسيحيةِ أثبته اكتشاف القائدِ الفرنسي برودوم للنُصبِ اليهودي في مسكنِه في حمّامِه ليف عام 1883. وبعد سقوط أورشليم على يد الرومان رحل الامبراطور ‏تيتوس عددَا عظيمَا مِنْ اليهود إلى موريتانيا، وإستقرّ عدد كبير منهم في تونس، حيث إشتغلوا بالزراعةِ، ورعاية الماشيةِ، والتجارةِ. وانقُسّموا إلى عشائرِ، لكل منها قائدها الخاص. وفرض الرومان ‏عليهم ضريبة أعناق مِنْ شيكيلين. وزاد عدد اليهود التوانسة في ظل سيادةِ الرومان والواندال (بعد 429) الذين عرفوا بتسامحهم الشديد مع اليهود، لدرجةِ أن مجالسِ الكنيسةِ الأفريقيةِ اعتبرته ‏ضرورة فرض قوانينِ ضدّهم. وبعد أن قام بيليساريوس في 534 بالقضاء على الحكام الواندال، أصدر جوستينيان الأول مرسومَه الخاص باضطهاد اليهود إسوة مَع الآريين وعابدي الأوثان‎.‎
في القرن السابعِ، زاد عدد السكانِ اليهود بشكل كبير بسبب المهاجرين الإسبانِ، الذين هُرُبوا إلى موريتانيا مِنْ اضطهاد الملكِ سيسيبوت وورثتِه من القوط الغربيين، واستقروا في المُدنِ البيزنطيةِ. ‏يقول المؤرخون العربِ لأن هؤلاء المستوطنين قد اختلطوا بالسكانِ البربر وهودوا العديد مِنْ القبائلِ الكبيرة التي داومت على الاعتقاد باليهوديةِ حتى عهدِ مؤسسِ سلالةِ الادريسيين. ويحكي ‏القيرواني‎ ‎بأن ذلك حاكمِ بنزرت عند غزوها على يد حسان بن النعمان‎ ‎في 698 كَانْ يهوديا. عندما وَقعتْ تونس تحت سيادةِ العرب، أَو الخلافةِ العربيةِ لبغداد، تدفّق اليهود العربِ إلى تونس مجددا. ‏
عندما أعلنَ الإمامَ إدريس استقلال موريتانيا في 788 عن خلافةِ بغداد، إلتحقَ اليهود التونسيون بجيشِه بزعامة رئيسِهم، بنيامين بن يوشافاط بن أليعازر، ولكنهم سرعان ما انسحبوا لسببين؛ أولهما، ‏لكرههم مُحَارَبَة أخوتهم في الدّينِ في أنحاء موريتانيا الأخرى التي بَقيت مخلصة لخلافةِ بغداد؛ وثانيا، بسبب بَعْض الأفعال المخلة بالشرف التي أرتكبها إدريس ضدّ اليهودياتِ. انتقم إدريس المنتصر ‏لهذا الارتداد بمُهَاجَمَة اليهود في مُدنِهم. بعد مقاومةِ فاشلِ جاء السلام طبقاً للشروطِ التي منها مطالبة اليهود بالجزية وتَزويد الجالية لعدد معيّن من العذارى سنوياً لحريمِ إدريس. وفضلت قبيلةُ عبيد ‏الله اليهوديةُ الهُجْرة إلى الشرقِ بدلاً مِنْ الإذْعان لإدريس. وتقول التقاليدِ بأن يهود جزيرةِ جربة هم سلالة تلك القبيلةِ. عام 793 سمم هارون الرشيد الإمامِ إدريس (ويُقالُ، مِن قِبل طبيبِ الحاكمِ شاما، ‏الذي يحتمل أنه كان يهوديا)، وتأسست سلالة حوالي 800 سلالةَ الأغالبة ودامَت حتى عام 909، وكانت حالةِ اليهود في تونس حسنة جداً. عاد الحكم في بنزرت إلى اليهود ك، وامتد التأثيرُ السياسي ‏لليهود في إدارةِ البلاد، وعلى الأخص الحالية في كيروان التي أبليت حسنا. ‏
واستمرت ظروف اليهود في الانحطاط تارة – كما حدث في عهد المعز (1016 إلى 1062) الذي اضطهدهم والنصارى، وخاصة القيروانيين منهم الذين هاجروا أفواجا إلى المدينة تونس. كما كان ‏لوصول سلالةِ الموحدين إلى عرشِ المقاطعات المغربية في 1146 أثر فادح على يهود تونس. فقد ادعى أول ملوكهم - عبد المؤمن - تمشياً مع اعتقاد خرافي لا أساس له من الصحة في التقاليدِ ‏الإسلامية، بأنّ النبي محمد سَمحَ لليهود بممارسة دينِهم بحرية لخمسمائة عام فقط، وأعلنَ بأنّه إذا لم يأتي المسيح المنتظرِ بعد تلك الفترةِ عليهم اعتناق الإسلامِ قصرا. وأرغم اليهود بالإضافة إلى ‏المسيحيين وفقاً لذلك أمّا على إعتِناق الإسلامِ أَو لتَرْك البلادِ. واتبع ورثة المؤمن نفس المنهج، فتسببت إجراءاتهم الصارمةِ أمّا في الهجرةِ أَو في الأسلمة بالقوة. وسرعان ما ارتاب الموحدون من ‏إخلاصِ المتأسلمين الجدّدِ فأرغمَوهم على لِبس زيي خاصَّ، وطرحة صفراء كغطاءِ للرأس. ‏
أثناء الاحتلال الإسباني للسواحلِ التونسيةِ (1535-74) عانت الجالياتِ اليهوديةِ في بنزرت، سوسة، صفاقص، والموانئ البحرية الأخرى كثيراً على أيدي الفاتحين؛ بينما تَمتّعوا في ظل الحُكُمِ ‏التركي اللاحقِ، بأمن لا بأس به، ضمن لهم حرية ممارسة ديانتهم، وحريَّةِ إدارة شؤونِهم الخاصةِ. ومِنْذ بِداية القرن الثامن عشرِ حتى عام 1864، تحسن الوضع السياسي لليهود في تونس بثبات ‏بسبب تدخل القوى الأوربية في شؤون البلاد مطالبة بمعاملة حسنة للنصارى المقيمين هناك ومضطرين بذلك ضم اليهود الذين كانوا يصنفون تباعا مع النصارى كذميين. ‏
قلة هم اليوم، لا يتجاوز عدد يهود تونس الألفين، اغلبهم مستقر بجزيرة جربة السياحية ومعظم البقية في العاصمة وضواحيها. ومازالت جربة، التي تقع جنوب شرق تونس، ويبلغ عدد سكانها حوالي ‏‏120 ألفا غالبيتهم‏‎ ‎من العرب المسلمين ومن بينهم البربر والأفارقة وأقلية من المسيحيين، تضم 11 معبدا‏‎ ‎يهوديا يؤمها نحو 1500 من التونسيين الذين يدينون باليهودية، والذين يعيشون في‏‎ ‎حيّين هما ‏‏"الحارة الكبيرة والحارة الصغيرة‎."‎‏ هم تونسيو المولد والنشأة، تجمعهم‏‎ ‎بغيرهم من التونسيين اللغة وبعض العادات والتراث الحضاري المشترك في عمومه‎...‎‏ معظمهم هاجر إلى البلاد الأوربية وإلى ‏إسرائيل، ولكنهم يحتفظون بعلاقاتهم ببلادهم الأصل وذلك بالحج خلال شهر مايو من كل‏‎ ‎عام إلى معبد 'الغريبة' في جزيرة جربة بالجنوب التونسي، يأتونه بآلاف حنينا ورغبة في استحضار ‏الماضي‎...‎‏ يقول اليهود إن كنيست "الغريبة" الذي ترقد فيه واحدة من أقدم نسخ التوراة، ارتبطت‎ ‎نشأته بامرأة قدمت إلى جربة وعاشت فيها بعفة وورع إلى أن ماتت في مكان الكنيست‎ ‎الموجود ‏حاليا‎.‎‏ وشهد المعبد أعمال بناء وتوسيع منذ عام 1920 ليستوعب الأعداد المتزايدة من‏‎ ‎الزوار واليهود الذين يأتون من كل مكان في العالم لحضور الاحتفال الديني السنوي،‎ ‎وفي فترة الربيع ‏والذي يطلقون عليه اسم "الهيلولة" وهو الاسم الذي‏‎ ‎يستخدمه التونسيون كذلك، بصرف النظر عن ديانتهم، على أي احتفال يقيمونه‎.‎‏ وفي هذا الاحتفال يتنافس اليهود على دفع ما يعرف بـ "المنارة" ‏التي تحمل الكتاب‎ ‎المقدس ( التوراة) خارج المعبد اتجاه الحارة الصغيرة، ومن يدفع أكثر يكون أوفر‎ ‎حظا‎.‎‏ وتضمّ جربة مدارس تلمودية لتعليم الأطفال تاريخ اليهود واليهودية واللغة‏‎ ‎العبرية‎. ‎
كانت تونس دائما واحدة من أقل الدول في جنوب المتوسط التي سكنها اليهود مقارنه بأعداد اليهود في مصر و الجزائر و ليبيا و المغرب وذلك لطبيعة أهل تونس الذين كانوا يتوجسون خيفة من ‏اليهود على مر العصور ولهذا أكثر اليهود الذين عاشوا في تونس كانوا يلجأون للجنوب التونسي و يعيشون شبه منعزلين عن باقي السكان المسلمين. وينحدر يهود تونس من مجموعتين، الأولى هي ‏التونس التي لجأت إلى البلاد منذ تدمير‎ ‎هيكل سليمان الأول، ويهود الغرانة ذوي الأصول اللاتينية البرتغالية الإيطالية‎.‎‏ وحلّ يهود الغرانة بتونس في القرن السادس عشر بعد أن تمّ طردهم من أوروبا ‏مع‎ ‎المسلمين‎.‎‏ واختار يهود الغرانة إقامة ما يشبه "الغيتو"، حيث منعوا التزاوج مع الطوائف‎ ‎الأخرى، بما فيها يهود التونس‎.‎‏ وانتظرت المجموعتان حتى عام 1944 ليشهدوا ما يشبه الوحدة بعد أن تمّ ‏رفع‎ ‎القوانين التي تحّرم التزاوج بينهما أو الدفن في نفس المقبرة، ويعود سبب ذلك إلى قيام النازيين بحرق إحدى مقابرهم‎.‎
وقد كانت تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي وقعت تحت الاحتلال الألماني النازي عام 1942/1943. وقج قام الألمان وأتباعهم في تونس بفرض الأعمال الشاقة على اليهود التوانسة واستولوا ‏على ممتلكاتهم، وأخذوا نسائهن رهائن لإجبار العائلات علي دفع فديات خيالية، ورحلوا أعدادا منهم إلى أوربا إلى معسكرات الإبادة. وهي البلد العربية الوحيدة التي أجبر فيها مواطنوها اليهود على ‏ارتداء شارة نجمة داوود الصفراء، وأجبر رؤساء الجالية للعمل ضد ذويهم تحت التهديد بالموت أو السجن. ‏
وبعد أن نالت تونس استقلالها عام 1956 قامت حكومتها بتمرير عدد من القوانين المعادية لليهود، وقامت الحكومة بحل مجلس الجالية الذي كان يقوم على أمور اليهود ثم بإزالة وتدمير عدد من ‏المعابد والمقابر العتيقة وأحياء اليهود التاريخية بحجة "التنمية العمرانية". وقد أدى ذلك إلى هجرة ما يزيد عن 40 ألف يهودي من مجمل 105 ألفا بحسب تعداد 1948. وبحلول عام 1967 ‏إنخفض عدد السكان البهود إلى 20 ألف فقط. وأثناء حرب النكسة قام التوانسة بحرق بعض المعابد ومحلات اليهود التجارية، ألا أن حكومة بورقيبة نالت من المعتدين وإعتذرت لليهود، وناشدتهم بأن ‏يبقوا في تونس. ألا أن 7 ألف يهودي هاجروا في ذلك العام، معظمهم إلى فرنسا. وتقوم الحكومة التونيسية حاليا على حماية مواطنيها اليهود حماية شديدة، خاصة بعد مقتل 5 أشخاص أثر إطلاق ‏حارس تونسي للنار داخل معبد جربة عام 1985، وتفجير القاعدة لشاحنة وقود داخل فنائها عام 2002، راح ضحيتها 17 شخصا كان معظمهم من السياح الأجانب الذين جاءوا لزيارة أقدم معبد ‏يهودي في الشرق الأوسط. ‏



‏ ‏

ليست هناك تعليقات: