الاثنين، 22 سبتمبر 2008

الجزء السادس – يهود ليبيا

تتكون ليبيا من ثلاثة أقاليم: طرابلس الغرب، والبرقة شرقا وفزان جنوبا. وتعود أول إشارة إلى وجود اليهود في ليبيا إلى القرن الثاني ق.م. عندما قام بطليموس الأول سوتر (282 ق.م.) بتوطين اليهود بمنطقة ‏بنتابوليس (المدن الخمس) اليونانية التي كانت أهمها قورينا. وتطورت هذه المستوطنات العسكرية سريعا لتصبح مدنا لعبت فيها الجالية اليهودية المثقفة دورا هاما. فقد كان أول المؤرخين اليهود هو جيسون ‏البرقي الذي هاجر إلى إسرائيل أيام الانتفاضة الهزمونية (166 ق.م.) وقد دون تاريخ المكابيين في خمسة كتب فقدت كلها للأسف ولم يبقى منها سوى ملخص في سفر المكابيين الثاني. وكتب المؤرخ اليوناني ‏سترابو عن يهود قورينا بأنهم كانوا يشكلون ربع سكان المدينة. ‏
ولم ينجو يهود قورينا مثلهم مثل ملتهم في مصر من تأثير الحضارة اليونانية كما يتضح من وجود أسماء يهودية بين خريجي الأكاديميات اليونانية في قورينا وبطوليميس. ولكن سكان الباطن من اليهود الذين ‏كانوا هم الأغلبية تأثروا بالثقافة اليونانية والرومانية لدرجة أقل من أقرانهم الساحليين. وقد فشلت كل ثورات اليهود ضد الرومان وطرد ما تبقى منهم من المدن الساحلية إلى الجنوب على الحدود مع الصحراء، ‏حيث عاش بقيتهم حتى أربعينات القرن الماضي. ‏
ليس لدينا سوى القليل من المعلومات عن تاريخ يهود ليبيا في الفترة ما بين الفتح العربي في عام 642 والغزو الإسباني لطرابلس في 1510، ولكن الإشارات المتناثرة هنا وهناك تبين أنهم كانوا يعيشون في ‏أجزاء كثيرة من البلاد.‏
وعند غزو الأسبان لطرابلس عام 1510 هربت 800 أسرة يهوجية إلى تاجوراء وهي قرية ساحلية شرق طرابلس، كما هرب جزء منهم إلى جبل غريان الذي يبعد حوالي 50 ميلا جنوب الساحل. وقد استولى ‏العثمانيون على طرابلس عام 1551 وطردوا منها الأسبان وحكموها حتى 1911، فعاد بعض اليهود إليها. وفي نفس تلك الفترة قرر أحد المنفيين من إسبانيا واسمه شمعون ليفي، والذي كان في طريقه من فاس ‏إلى فلسطين، أن يبقى في طرابلس وأن يتفرغ لتعليم أهل ملته عناصر ديانتهم. ويعتقد يهود طرابلس بأن أعمال ليفي الذي بقى وسطهم إلى أن وفته المنية في 1580 كانت هي الأساس لجاليتهم في تلك المدينة ‏ولكل مؤسساتهم وتقاليدهم. وفي عام 1588 انتفض العرب ضد الأتراك العثمانيين في منطقة طرابلس الغرب وكان لانتفاضتهم طابع ديني، فأجبروا آلاف اليهود على اعتناق الإسلام وقتلوا العديد منهم لكونهم ‏جنودا في الجيش العثماني. ‏
اشتد عود الجالية اليهودية في ليبيا في القرن السابع عشر بوصول الغوريم، أي اليهود المهاجرين من إيطاليا. وكان أحد هؤلاء يدهو إبراهام ميخائيل كاردوزو وهو من أصل إسباني عربي عاش لسنوات طويلة ‏في البندقية وليفرنو ثم في مصر، وكان من المعتقدين اعتقادا شديدا في المسيا الكذاب شابتاي زيفي، حتى بعد اعتناق هذا الأخير للإسلام. وقد قام بالترويج بنجاح لتعاليم شابتاي في طرابلس ومناطق شمال أفريقيا ‏الأخرى لدرجة أن القصيدة التي ألفتها نساء طرابلس اليهوديات باللغة العبرو-عربية والتي تحتوي على دعاء "لعودة المسيا وتلميذه ناثان من غزة" كانت تتلى علنا حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ‏
وفي القرن الثامن عشر ازدادت حركة التجارة بين طرابلس وليفرنو بمبادرة من بعض التجار اليهود الذين كانوا يرسلون بالبضائع المستوردة من طرابلس إلى واحات فزان والباطن، حتى تصل مدينة برنو في ‏نيجيريا. ولكن الأوبئة والمجاعات التي ابتلت بها منطقة طرابلس الغرب أسوة بباقي مناطق شمال أفريقيا والشرق الأوسط والارتفاع الحاد في أسعار الضروريات تسببت في افتقار الجالية مما أدى بدوره إلى ‏انخفاض النشاط التجاري بين طرابلس ومناطق الباطن الصحراوية في أواخر القرن التاسع عشر، خاصة مع افتتاح الطرق التجارية الجديدة وتأسيس مواني بطول الساحل الأفريقي، إضافة إلى دخول السودان ‏الأنجلو-مصري منافسا قويا لليبيا في التجارة.‏
كان معظم يهود ليبيا يكسبون قوتهم اليومي من الحرف والصناعات حتى نهاية وجودهم في تلك الدولة - فقد كانوا الجالية الوحيدة التي تصنع المعدات الزراعية الحديدية. وعند إجراء الحكومة الإسرائيلية إحصاء ‏على اليهود الليبيين الواصلين إليها في الفترة ما بين 1948 و1951، تبين أن 47 بالمائة منهم كانوا من الحرفيين، 15،4 بالمائة من التجار، 7،5 بالمائة كتبة وموظفين، 7،1 بالمائة عمال نقل وتشييد، 6،1 ‏بالمائة مزارعين، 3 بالمائة مهنيين (يشمل ذلك المدرسين والكهنة)، بينما عمل 13،9 بالمائة منهم في قطاع الخدمات الشخصية وكعمال غير مهرة. ويمكننا الافتراض بأن الهيكل الوظيفي ليهود ليبيا قبيل الهجرة ‏لم يختلف كثيرا عن ذلك.‏
أحكم شيوخ الجالية قبضتهم على حياة الجالية منذ البداية في طرابلس، وفرضوا ضرائب استيراد تعادل 3 بالمائة من قيمة السلع المستوردة على كل أثرياءها. واستخدمت هذه الأموال في الصرف على المدارس ‏والقضاة الدينيين والمدرسين والطلبة في المدارس الدينية والبطلانيم (وهم الذكور العشرة الذين لا يسمح لهم بالعمل لتفرغهم بالكامل لدراسة التوراة والدين طوال حياتهم، ويعتقد بأنه يجلبون البركة بذلك على ‏بقية الجالية). وكان على أثرياء اليهود دفع هذه الضرائب وإلا حرموا من الملة. ثم أضيفت عليهم ضرائب جديدة، مثل ضريبة صبغ الحرير وضريبة اللحوم. وكان من المصادر المالية المهمة المزايدة علنا على ‏شرف القيام بطقوس معينة في المعبد، وهو تقليد تمارسه كل الجاليات اليهودية المتدينة - وكان الشرف من نصيب من يدفع السعر الأعلى.‏
كان كهنة اليهود في طرابلس أكثر انجذابا لدراسة القبالا منهم للناموس، وتركوا عددا من الكتابات الصوفية. كما نظم بعضهم أشعارا بالعبرية والعربية معظمها من المراثي التي تحكي كيفية اضطهاد اليهود في ‏ليبيا. واستمرت هذه النشاطات الأدبية حتى بدايات القرن العشرين. أما كبار الكهنة فقد كان يعينهم مرسوم من الباب العالي في الأستانة، وكان لهم "قائد" هو رئيس الجالية العلماني الذي كان يمثلها أمام أصحاب ‏السلطة. ‏
وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأت إيطاليا تلمح بوضوح برغبتها الحصول على الأراضي الليبية، فقد أرسلت يهوديا إيطاليا إلى طرابلس عام 1876 لينشئ أول مدرسة إيطالية تعلم فيها آلاف البنات والبنين ‏‏(وشكل أطفال اليهود أغلبية طلابها). وبدأت منظمة التحالف اليهودي العالمية عام 1890 نشاطها التعليمي في ليبيا. قامت إيطاليا باحتلال البلاد عام 1911، وشرعت في غزو الباطن والقضاء على الثورات ‏المندلعة ضدها. وبالرغم من أن وضع اليهود لم يتحسن بالقدر المأمول في ظل الحكم الايطالي في ليبيا ألا أنه لم يكن لديهم سبب للشكوى إلى أن حل عام 1942 وقرضت حكومة موسولينى الفاشية القوانين ‏المعادية للسامية عليهم. وقد كان كل كبار الكهنة في طرابلس آنذاك إيطاليو الأصل، فلما اندلعت الحرب عانى اليهود منها أكثر من العرب، إذ أرسل كل رجالهم ما بين سن الثامنة عشر والثانية والأربعين إلى ‏معسكرات العمل على خط النار. وعندما اضطر البريطانيون للانسحاب من البرقة بعد احتلالهم لها لفترة قصيرة، نفى الإيطاليون أهلها اليهود إلى معسكر اعتقال في الجنوب، حيث قضى 562 منهم نحبهم جوعا ‏ومرضا في ظرف عام، وكان هذا العدد يمثل ربع المعتقلين هناك. وعاد من نجا منهم إلى منازلهم بعد أن حررتهم القوات البريطانية عام 1943.‏
بعد الحرب حاول اليهود إعادة بناء جاليتهم وحياتهم ولكن عدم مراعاة الجيش البريطاني لسلامتهم أدى إلى عمليات عنف جماعية ضدهم في أواخر 1945 في عدة مدن، قام فيها الليبيون العرب بقتل وإصابة ‏أعداد كبيرة منهم ونهب منازلهم وحرق معابدهم، مما دفع باليهود إلى تكوين منظمات للدفاع عن أنفسهم استطاعت عام 1948 التصدي بنجاح لهجوم جديد على الحي اليهودي في طرابلس. ‏
من الأمور التي انفرد بها يهود ليبيا هو إقامة بعضهم في الكهوف، ومنهم سكان منطقة غريان وتغرنة في الباطن الجنوبي. وبالرغم من أن معيشة هؤلاء اليهود لم تكن تختلف كثيرا عن حياة جيرانهم البربر، ‏وبالرغم من عزلتهم عن يهود الساحل إلا أنهم حافظوا على دينهم وتقاليدهم العتيقة. وقد أنشأوا قرى بأكملها في هذه الكهوف، بمنازلها ومخازنها وأفنيتها تربطها ببعضها البعض ممرات شقت وسط المرتفعات ‏الطفالية الحمراء. ‏
وقد ذكر أحد الأوربيين الذين زاروا غريان ما بين 1818 و1820 أن مساكن هؤلاء اليهود كانت نظيفة وبأنهم كانوا يتمتعون بمهارة كبيرة في نحت منازلهم في الجبال. ويقول الرحالة ناحوم شلوتز الذي زار ‏ليبيا عام 1906 بأن حوالي ألف يهودي كانوا يسكنون حينها كفر عباس وحوالي 300 منهم في تغرنة، وأن أعدادهم كانت أكبر من ذلك في الماضي ألا أن معظمهم ارتحل إلى طرابلس قبل وصوله إليها. ويتضح ‏من وصفه أن الجالية اليهودية في هاتين القريتين كانت منظمة ونشطة، فقد كان لديهم معبد ومدرسة توراة تحت الأرض، وكهنة وجزارين متخصصين في الذبح حسب الناموس، وكان كل ذكورهم ملمين بالعبرية ‏قراءة وكتابة. وقد انضم سكان الكهوف هؤلاء إلى بقية يهود ليبيا الذين هاجروا إلى إسرائيل ما بين 1948 و1951. فقد غادر حوالي 30 ألف يهودي من ليبيا إلى إسرائيل في خلال السنوات الثلاث التالية ‏لتأسيسها، تاركين خلفهم ما لا يزيد عن 8 ألاف يهودي. وبعد حرب النكسة عام 1967 اندلعت أعمال العنف ضد اليهود في ليبيا مرة أخرى فهاجر معظم الباقين منها. وعند استيلاء العقيد القذافي على السلطة عام ‏‏1969 زج من تبقي منهم – حوالي 500 شخص – في معسكر اعتقال في طرابلس، ثم سمح لهم بالمغادرة في خلال عام. وفي 1976 لم يكن بالبلاد سوى 40 يهوديا ليبيا. ‏

ليست هناك تعليقات: