الاثنين، 22 سبتمبر 2008

الجزء السابع – يهود مصر

مصر هي أقصى البلدان العربية الخمسة الواقعة على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط شرقا، هي تختلف جوهريا عن الأربعة الأخر . ففي المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا، يتركز السكان على الساحل، ‏ويعتبر مركزا حضاريا بالنسبة لمناطق الباطن والإقليم. وفي كل من هذه الدول تمتد المدن الرئيسية، والأراضي الزراعية في شريط ضيّق نسبيا يحتضن البحر الأبيض المتوسط،، والشريط الساحلي للمحيط ‏الأطلسي في المغرب. وكلما ابتعدنا أكثر عن البحر، إلى الجنوب، كلما أحاطت بنا الصحراء القاسية حيث لا حياة مستقرة سوى في الواحات القليلة التي تنتشر في هذه الفسحة القاحلة من الصخور والرمل كجزر ‏خضراء خصبة.‏
أما في مصر، فالبحر أقلّ أهمية بكثير عن نهر النيل. وبالرغم من أن هناك مدينة كبرى واحدة على الساحل، هي الإسكندرية، وعدّة مدن صغيرة على ساحلي البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، فإن الأغلبية ‏الساحقة من المصريين تعيش كما عاشت لستّة ألف عام، على ضفاف النيل أو في مثلث الدلتا الكبير.‏
تحتلّ مصر مكانة خاصّة في التاريخ اليهودي. فهي أول بلاد استقبلت اللاجئين العبرانيين؛ حيث إليها توجه يعقوب وعائلته المكونة من سبعين شخصا هربا من المجاعة في أرض كنعان. وهي البلاد التي توالد فيها ‏حفنة من أطفال وأحفاد يعقوب المدعو إسرائيل ليصبحوا شعبا مكونا من أثنتا عشر سبتا. كما أنها كانت أيضا أول البلاد التي استغلت بني إسرائيل، واضطهدتهم، واستعبدتهم، ومارست عليهم الإبادة الجماعية، ‏ورفضت السماح لهم بالمغادرة — وكلّها أحداث ستتكرر مرارا وتكرارا عبر تاريخ اليهود الطويل. كانت مصر هي أول البلاد التي راودت فيها بيت إسرائيل الرغبة في العودة إلى أرض الميعاد، والتي تمكنت من ‏الهرب منها في ظروف إعجوبية. وفي سيناء، على الحدود المصرية، أعطي يهوة بنو إسرائيل الناموس الذي أصبح أساس وجودهم وشارة هويتهم الأزلية التي تفصلهم عن بقية الأمم. ‏
وعندما قام البابليون بتدمير المعبد الأول في أورشليم بعد مرور سبعة قرون على الخروج من مصر، هربت فرقة من اللاجئين من أرض يهوذا إلى مصر مرة أخرى، أخذين معهم النبي أرميا غصيا عنه. وكان ‏بعض المدنيون والمرتزقة اليهود قد استقروا على جزيرة فيلة في الوجه القبلي (أسوان حاليا) عدّة عقود قبل وصول هؤلاء اللاجئين، حيث شكّل الجنود اليهود حامية حدودية. وبنوا لأنفسهم معبدا بقى واقفا حتى ‏عام 411 قبل الميلاد. كانت ديانة يهود فيلة نوعا من اليهودي الشعبية، مارسها اليهود في مملكة يهوذا حتى دمرت على أيدي البابليين في 586 ق.م.، حيث عبدوا إلى جانب‏‎ ‎يهوة، الإلهة عشتروت. أما في فيلة، ‏فكان لهم إلهتان هن أشامبيثيل وأناثبيثيل، يتعبدون إليهن أسوة مع يهوة. ‏
ومنذ ذلك الوقت، أي منذ عام 586 ق.م. على وجه التحديد ، لم يغب اليهود عن أرض مصر مطلقا، وهو أمر مثير للدهشة إذ أن مصر هي البلاد الوحيدة في العالم التي منع بنو إسرائيل من العودة إليها بشكل ‏واضح في التوراة (تثنية 16:17؛ وما يليها. هوشع 5:11).‏
حكم مصر نفسها تنقّل من يد إلى يد أثناء تاريخها الطويل: فبعد العديد من السلالات الفرعونية، حكمها البطالمة اليونانيون، ثم الرومان، ثم روم بيزانطة، فالعرب، فالمماليك، فأتراك، ثم جاء الاحتلال الفرنسي ‏والبريطاني لينتهي بالاستقلال والحكم الذاتي. وتغيّرت لغاتها وثقافتها مع تغيير الحكم: فاستبدلت اليونانية المصرية القديمة والقبطية، ومحت العربية اليونانية، بينما هيمنت على صلوات غالبية المصريين الألهة ‏المصرية واليونانية والرومانية الكثيرة، إلى أن تنصرت مصر، وبقت مسيحية حتى الغزو المسلم في القرن السابع. وبالرغم من كلّ هذه التحولات، بقى يهود مصر صادقو الوعد مع أنفسهم وتراثهم، ودينهم ‏اليهودي وتقاليدهم، ولغة طقوسهم العبرية، وانتماءهم العرقي اليهودي.‏
كان الثقافة اللهيلينية هي التحدي الأعظم الذي واجه اليهودية في مصر. أصبحت مثر بعد فتح الإسكندر الأكبر لها عام 332 ق.م.، مركزا للثقافة اليونانية وخصوصا مدينة الإسكندرية العظيمة حيث استقر العديد ‏من اليهود. وتبنى اليهود هذه الثقافة بفلسفتها وآدابها وعلومها، وشاركوا بحماس في كلّ النشاطات الثقافية اليونانية في الإسكندرية ماعدا العلوم. وصارت اليونانية هي اللغة التي يتحدثون بها، كما ترجموا ‏التوراة إلى اليونانية، وألفوا المسرحيّات باليونانية، وكتب التاريخ، ودواوين الأشعار والأعمال الفلسفية. وعمل اليهود كقادة في الجيش والشرطة، وصاروا جزء من حياة البلاد. ولكنّهم استمروا على دينهم، وبنوا ‏لأنفسهم أماكن عبادة كبيرة وحتى معبد في ليونتوبوليس (الوجه البحري) في عام 161 ق.م. بل وغالوا في أعمالهم الفلسفية والأدبية والتاريخية في إظهار براعة الشعب اليهودي والدفاع عنهم والمجادلة ‏بتفوقهم. ويبدوا أن اهتمامهم الأساسي بالدين واليهودي وباليهود كان السبب وراء امتناعهم الكليّ عن الاشتغال بالعديد من مجالات العلوم — الرياضيات، الهندسة، الجغرافية، علم الفلك، الدراسات الطبية، علم ‏فقه اللغة، الخ. — الذي كان إغريق الإسكندرية من أبرز علمائها آنذاك. ويبدو بأنّهم اعتقدوا بأن الانشغال في هذه المجالات لن يضيف شيئا على هدفهم الشاغل وهو تحسين وضع اليهود.‏
وقعت مصر تحت وطأة الحكم الروماني في القرن الأول قبل الميلاد ، وساءت حالة اليهود مثلهم مثل المصريين، إذ صاروا مواطنين من الدرجة الثانية وفرضت عليهم الجزية. كما بدأت الكتابات المعادية للساميّة ‏في الانتشار، ووقع عدد من المذابح المدبرة. وحاول اليهود الانتقام أو التمرّد (مثلا في عام 66 و115 إلى 117 ميلادية ولكن كل محاولاتهم سحقت. وقلّ عدد اليهود بسرعة، فبحلول القرن الثاني الميلادي ‏تحول المسيحيون المتمركزون في الإسكندرية بحدّة ضدّ اليهود، ولم تعد حياة الجالية اليهودية إلى مجراها مرة أخرى إلا عام 300 ميلادي. ‏
لا نعرف سوى القليل عن يهود مصر في الفترة الممتدة ما بين الغزو العربي (640 م.) و نهاية القرن العاشر، بالرغم من أن هناك إشارات بأن اليهود كانوا نشيطين في التجارة بالإضافة إلى السمو بالعلم ‏والثقافة، ووجود عباقرة بمستوى سعدية غاون الذي ولد عام 882 في الفيوم (جنوب القاهرة حاليا). استهل الغزو الفاطمي لمصر في عام 969 فترة إزدهار ونشاط ثقافي كبير، إستمرّت حتى نهاية حكم ‏الأيوبيين في 1250 م. إن التوجه الليبرالي للخلفاء الفاطميين - باستثناء الحاكم بأمر الله (996 -1020)، الذي أسس الطائفة الدرزية - مكّن الجالية اليهودية من الإزدهار. وبالرغم من أنها كانت صغيرة العدد ‏‏(فلم تتعدى في القرن الثاني عشر الذي هو أكثر من 20,000 شخص، إلا أن أفراد الجالية اليهود كانوا من التجار الأثرياء، واشتغلوا في مختلف المهن، وخدموا الخلفاء كأطباء وكانوا من رجال البلاط ومدراء ‏المحافظات. وأنتج العلماء منهم أدابا غنيا، وأنشئوا أكاديمية في الفسطاط، عرف مديروها باسم غاونيم وكانت سلطتهم الدينية والتشريعية تصل إلى عدن في جنوب اليمن. وكان الرئيس العلماني للجالية اليهودية ‏ذاتية الحكم يعرف بإسم النقيب، أو ريس اليهود بالعربية، وهي رتبة توارثها أحفاد بن ميمون حتى عام 1370.‏
في عام 1301 أصدر الحكّام المماليك مراسيم استهدفت السكان غير المسلمين في مصر، ومن بينهم المرسوم بوجوب ارتداء اليهود عمائم صفراء، والمسيحيين عمائم زرقاء، والسامريّين عمائم حمراء. وبعد ‏نصف قرن من ذلك وقعت هجمات ضدّ غير المسلمين، وفرضت احتكارات خربت على اليهود أرزاقهم. وزاد الظلم تحت حكم المماليك الشراكسة من أواخر القرن الرابع عشر، وانخفض عدد السكان، ومنها الجالية ‏اليهودية، بشكل عام. في نهاية القرن الخامس عشر لم يبقى أكثر من 500 إلى 650 عائلة يهودية في‏‎ ‎القاهرة، 25 إلى 50 في الإسكندرية، 30 إلى 50 في بلبيس، بالإضافة إلى 150 أسرة قرائية و50 عائلة ‏سامرية في القاهرة. كانت هذه واحدة من الفترات الأليمة في تاريخ يهود مصر.‏
بدأ اليهود الذين طردوا من إسبانيا بالوصول إلى مصر في 1492، وأسسوا جالياتهم الخاصة بهم. وكان بينهم عدد من العلماء البارزين الذي كان لوجودهم أثر على رفع المستوى الثقافي لليهود المصرين. وجاء ‏الغزو العثماني بعدها بعدة سنوات قليلة، وكان الأتراك في بادئ الأمر متسامحون نحو الأقلّيات غير المسلمة، واستأمنوا وكلاء ومدراء يهود على الإدارة المالية للبلاد وجمع الضرائب فيها. وكان وزير المالية ‏اليهودي ينصب أيضا زعيما على الجالية اليهودية منذ حوالي 1560 (وكان يدعى شلبي أو 'السيد' ) ألا أن الوصول إلى هذا المستوى العالي في خدمة الحاكم التركي كانت له مخاطره الكبيرة، وإنتهى المشوار ‏بالعديد من الوزراء اليهود في القرن السابع عشر بالإعدام.‏
وبما أن المهاجرون اليهود من شمال غرب أفريقيا قد استقروا أيضا في مصر، فقد قسم يهود القاهرة والإسكندرية إلى ثلاث جاليات: المستعربيم (أي اليهود المحليون)، سيفارديم (المهاجرون من إسبانيا)، ‏والمغرابيم (المهاجرون من المغرب). وكما كان الحال في بلدان الشرق الأوسط الأخرى حيث اختلف أصل اليهود، حدثت نزاعات بين حين وآخر بين هذه الجاليات في مصر.‏
إنّ الزيادة السريعة للسكان اليهود في مصر في أعقاب الهجرة السيفاردية يشهد عليه عدد المعابد: ففي القرن السابع عشر كان في القاهرة واحد وثلاثون معبد إرتفعت في القرن الثامن عشر إلى ستّ وثلاثون. ‏وكان اليهود المصريون من رواد التجارة التي ربطت المدن الساحلية بكل من السلطنة العثمانية والمالك المسيحية.‏
زاد جشع الباشاوات الأتراك الذين حكموا مصر في القرنين السابع عشر والثامن عشر، واستبدوا جدا، مما أدى إلى معاناة اليهود عموما ولأثريائهم العاملين في خدمة الحكومة بشكل خاص. زار المسيح الدجال ‏شاباتي زيفي، مصر مرّتين، وسط الترحيب الحارّ من اليهود ومن رئيسهم الثري الزاهد رفائيل بن يوسف هين، الذي كان حينها في منصب الشلبي ويعمل بالقبالا، والذي أعدم في عام 1669.‏
جلبت حركة الإستقلال من تركيا، التي بدأت بثورة حاكم القاهرة على بك في عام 1768، مشاق عظيمة على اليهود. فقد حاول علي بك فرض حكمه على فلسطين، سوريا، وجزيرة العرب، معيدا يذلك تكوين ‏الإمبراطورية الأيوبية القديمة. وفرض ضرائب ضخمة على اليهود المصريين لكي يموّل نفقات حملاته. ‏
أثار غزو نابليون لمصر عام 1978 البلاد بحالها جالبا معه إرباكا جديدا لحياة اليهود. فمن ناحية، أصدر نابليون بيانا عاما وعد فيه اليهود بعودتهم إلى أرض الميعاد، ولكنه في نقس الوقت فرض ضريبة ثقيلة ‏على اليهود، وأمر بهدم المعبد في الإسكندرية.‏
وبالرغم من قصر الاحتلال الفرنسي لمصر - فقد انسحب الجيش الفرنسي من البلاد في 1801 - إلا أن أثره كان عظيما بما فيه الكفاية لتحديث مصر وتغريبها. فجرت الإصلاحات إلى مصر أعدادا كبيرة من ‏الأوربيين، ومن بينهم العديد من اليهود. وارتفع عددهم فيها من ما يقدّر بحوالي 6,000 إلى 7,000 يهودي في منتصف القرن التاسع عشر، إلى 25,000 يهودي حسب التعداد السكاني الذي أجري عام ‏‏1897، نصفهم من الأجانب الذين تمتّعوا بمنزلة خاصة. وقد أعفتهم ما سمّى بمعاهدات الاستسلام من الضرائب، ومن سلطة محاكم الدولة القضائية، ووضعتهم تحت حماية قناصلهم. ‏
بدأ اليهود في لعب دور مهم في التنمية الاقتصادية والثقافية في مصر، والمشاركة في الحركة القومية المصرية الفتاة، وفي الصحف المؤسسة حديثا، وفي الأدب المصري العربي الجديد. ومن رواد هذه الانتفاضة ‏الثقافية العربية كان يعقوب صنوع (1839 -1912) وهو مؤلف مصري يهودي الذي كتب وأنتج المسرحيّات الهجائية في الصحف العربية باللغة العامية حتى تم طرده من مصر عام 1878.‏
حسن الغزو البريطاني لمصر عام 1881 من وضع اليهود، وصاروا عنصرا رياديا في البلاد مع تقدم وضعهم الاقتصادي والتعليمي، والثقافي، فاستأسدوا وترفعوا على الشعب المصري. إلا أم العلاقات بين ‏المسلمين واليهود استمرت طبيعية بالرغم من عدّة قضايا التشهير الدموي في 1844, 1881، ثم في 1901 -2) وبعض الاضطرابات، التي اعتبرت حوادث بسيطة وعابرة. وانتقل اليهود الأثرياء إلى الضواحي ‏وبنوا لأنفسهم فيلات فاخرة. كما شيدت أيضا المعابد الجديدة، ودعوة مشاهير الأحبار من القدس لتولى مهام الحبر الأكبر في القاهرة، ومن إيطاليا للخدمة في نفس المنصب في الإسكندرية.‏
وأسّست المدارس اليهودية الحديثة في أربعينات القرن التاسع عشر بحيث تمتع معظم اليهود (وكل من عاش منهم في القاهرة والإسكندرية) بمنافع التعليم الحديث عند نهاية القرن. ومال منهم من مال نحو الحركة ‏الصهيونية، فتأسست منظمات صهيونية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأت الصحف اليهودية بالظهور منذ 1880 باللغات العربية، واللادينو، والفرنسية. وفي العقود الأوائل من القرن العشرين صار ‏اليهود من أعضاء البرلمان، وأعضاء مجلس الشيوخ، ووزراء الدولة. وأظهر التعداد السكاني في 1917 وجود حوالي 60,000 يهودي في مصر، أقام نصفهم تقريبا في القاهرة، وأن 58 بالمائة منهم كانوا ‏من الأجانب.‏
وهكذا، مع حلول القرن العشرين، كانت غالبية يهود مصر أوروبيون أو متغربين بصرف النظر عن أصولهم. وكان يسكنون المدن ولهم مكانة في هيكل الدولة المصرية واقتصادها، ولكنهم مع ذلك شعروا بأنفسهم ‏أجانبا من حيث ثقافتهم، ولغتهم، ومصالحهم، وفحوى حياتهم. والتحقت الأغلبية بالمدارس الأجنبية وتآلفت مع اللغة والثقافة الفرنسية، وإيطالية، وإنجليزية أكثر من العربية. وكانت ليهود مصر نواديهم الرياضية ‏الخاصة، والمنظمات الخيرية والأدبية والشبابية، ودور لبناي بريث (أبناء العهد)، وروابط للمهاجرين من السفاراد واليونانيين والإيطاليين. ‏
بلغ عدد اليهود في مصر ذروته في 1947 (65,639 طبقا للتعداد السكاني المقام لكلّ عشر سنوات)، واستقر 96 بالمائة منهم في القاهرة والإسكندرية. ومع أن سكن المدن خاصية يهودية عامّة في كلّ بلاد ‏العالم، إلا أنه ليس هناك مكان آخر وصل فيه التركيز الحضري لليهود مثلما بلغ في مصر. ومع أن ذلك كان يشير إلى هوية الجالية اليهودية المصرية الأجنبية، إلا انه عنى أيضا أنّ تقريبا كلّ اليهود في مصر ‏تمتّعوا بالمزايا التي قدمتها المؤسسات الاقتصادية، والصحية، والتربوية والثقافية والتي كانت متاحة في المدينتين الرئيسيتين فقط. وشابه يهود مصر بالمقارنة مع يهود شمال أفريقيا الآخرين جاليات يهودية ‏أوروبية في تركيبهم المهني أكثر منهم يهود المدن المسلمة. وعمل 59.1 بالمائة من كلّ اليهود بالتجارة، 21.1 بالمائة في الصناعة والحرف، 10.4 بالمائة في إدارات وخدمات حكومية، 6.3 بالمائة في ‏الخدمات الشخصية، 2.4 بالمائة في الاتصالات، و0.6 بالمائة في التعدين والزراعة وصيد الأسماك. كما طالت الاختلافات بين يهود مصر ويهود البلدان الأفريقية الشمالية الأخرى نسبة المعيلين إلى المعالين. ‏ففي مصر كان لكلّ معيل 2.1 معال، وهو رقم منخفض لم يصل إليه يهود شمال أفريقيا مطلقا. وكان من أوجه الشبه الأخرى مع أوروبا الارتفاع النسبي لعدد النساء اليهوديات المصريات العاملات بالتجارة، أو في ‏الصناعة، التشييد، الأعمال المكتبية،والطبّ، الخ.‏
كانت هذه الانجازات المهنية لليهود المصريين نتيجة التعليم الذي انتشر بصورة أواسع وسطهم من انتشاره بين الجاليات اليهودية في باقي شمال أفريقيا. بحلول عام 1947، كانت نسبة المتعلمين 89.7 من كلّ ‏الذكور اليهود من عمر خمسة سنوات فأكبر، و 75.9 بالمائة من كلّ اليهوديات في مصر. كان التعليم الأساسي عامّا؛ وأكمل 10.7 بالمائة على الأقل من الذكور اليهود في سن السادسة عشر فأعلى التعليم ‏الثانوي على الأقل، و4 بالمائة في سن العشرين فأعلى كانوا خريجي الكليّات أو الجامعات. أما بين النساء، فقد بلغت النسب المئوية المطابقة 3.2 و0.6 على التوالي. ‏
يتحتم علينا أ، نذكر هنا بأنّه تم تدريس العربية كلغة أجنبية، وأنها كانت جزءً من منهج المدارس الأجنبية التي استعملت فيها اللغات الفرنسية، الإيطالية، أو الإنجليزية للتدريس. والازدراء باللغة العربية هو أمر ‏تشارك اليهود فيه مع الأجانب الآخرين، بالإضافة إلى الطبقة العليا من المسلمين المتغربين المصريين والأقباط، وهو مما ساهم في شعورهم بأنهم أجانب.‏
استمر هذا الوضع السلمي لعدد من سنوات بعد زوال الحكم البريطاني على مصر عام 1922. وحتّى بعد الانتفاضات العربية الدامية في فلسطين في أغسطس 1929، عندما حاول مفتي القدس الحاج أمين ‏الحسيني تأسيس مراكز مضادة للصهيونية ومعاداة اليهودية في مصر، لم يحرز تقدّما يذكر ضدّ معارضة الملك فؤاد.‏
ولكن الامتيازات التى تمتّع بها الأجانب في مصر ألغيت في 1937، وبدأت أعمال العنف ضدّ اليهود في 1938، وفي 1939 كانت هناك في محاولات لقصف ثلاث معابد في القاهرة. وهدأت الحال بعض الشيء ‏أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث أن مصر كانت مركزا مهما للمجهود الحربي البريطاني. ولكن في نوفمبر 1945، في ذكرى وعد بلفور، هاجم أعضاء المنظمات الشبابية المصرية والأخوان المسلمين الأحياء ‏اليهودية في القاهرة، وأشعلوا النار في المعبد، وهدّموا مستشفى يهودي ودار للمسنين، ومؤسسات يهودية أخرى. ومنذ ذلك الوقت ارتبط أي حدث سياسي هامّ ذو علاقة بيهود فلسطين بهجمات الغوغاء على ‏يهود مصر.‏
وسارت الإجراءات الحكومية يدا بيد مع أعمال الشغب. ففي 1947 أصدر 'قانون الشركات' الذي فرض أن يكون أغلب مدراء الشركات من المواطنين المصريين. وحيث أن 15 بالمائة فقط من اليهود كانوا ‏مواطنين مصريين في ذلك الوقت (20 بالمائة كانوا مواطنين أجانب، والبقية، أي حوالي ثلثي المجموع، كانوا بدون وطن)، فقد سدد هذا المرسوم ضربة موجعة إلى المكانة الاقتصادية لليهود. وتلت هذا القانون ‏قوانين أخرى مثل منع المواطنين غير المصريين من عمل كأطباء، وسماسرة، الخ. كان تأثيرها مريعا على اليهود. ووقع عدد كبير من أعمال الشغب ضد اليهود عام 1948 تضمنت تفجيرات، وحالات قتل ونهب. ‏وفرض على اليهود تقديم مساهمات مالية ضخمة للجيش المصري، وسجن العديد منهم في معسكرات الاعتقال، كما أجبر الحبر الأكبر حاييم نعوم على الإعلان بأنّ من واجب يهود مصر الدفاع عن البلاد ضدّ ‏الصهيونية.‏
تدوين التاريخ لا يكون أبدا عملية تتسم بالموضوعية العلمية، بل يتخذ ألوان الطيف حسب اليد الممسكة بالقلم. هناك الكثير من الكتب التي تتحدث عن يهود مصر ألفها كتاب مصريون مسلمون، ولكننا نادرا ما ‏نسمع صوت موضوع هذه المؤلفات، إلا وهم يهود مصر (والمصريون اليهود). وما الذي حدث بين 1937 واليوم مر وتمرغ في أحداث أصبغت على رؤيتنا للتاريخ ألوانا من التعصب والكره راح ضحيتها أناس ‏لم يكن لهم – كما نقول في مصر – "لا في الثور ولا في الطحين". ومن بين هذه المؤلفات «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات» للكاتب المصري محمد أبو الغار، و"يهود مصر بارونات وبؤساء" للمؤلف ‏عرفه عبده علي، و"قراءة في تاريخ اليهود المصريين" لمؤلفته نرمين نزار، الذي استند إليه في حديثي عن يهود مصر لكونه أكثر هذه المؤلفات موضوعية. ‏
وعندما نقرأ ما يكتبه "أشباه المؤرخين" المصرين عن يهود مصر نجد أسلوبا لا يتسم بالعلمية مثل "في عصر جمال عبد الناصر زاد الصراع بين مصر واسرائيل زيادة شديدة، و بدايتا من قيام اسرائيل ودعوتها ‏لليهود من جميع أنحاء العالم للهجرة اليها، بدأ يهود مصر يتحولون إلى اسرائيل، و زيادة انتمائهم اليها عن مصر، وقد تم كشف العديد من شبكات التجسس الاسرائيلية، التي كان أعضائها من يهود مصر، و بعد ‏احتلال اسرائيل لسيناء زاد ولاء يهود مصر لاسرائيل وبدأت اسرائيل استخدام بعضهم للتجسس علي نطاق أوسع، وبعد اكتشاف أخر شبكة تجسس، أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرار بترحيل جميع ‏اليهود إلى اسرائيل، و بعد انتصار مصر في حرب أكتوبر 1973 بدأ قلة من اليهود الذي تم ترحيلهم إلى اسرائيل بمحاولة العودة لمصر بعد ادراكهم بأن اسرائيل لن تستطيع احتلال مصر، في الثمانينيات تم رصد ‏بعد محاولات النزوح لمصر من قبل عدد قليل جدا من العائلات، ولكن طبقا للدستور المصري، بحصول هؤلاء اليهود علي الجنسية الاسرائيلية فأنه تم تجريدهم من الجنسية المصرية نهائيا، وتم رفض طلبات ‏النزوح وترحيل اليهود من الحدود المصرية، و باسترداد مصر لطابة تم طرد آخر يهودي من الأراضي المصرية إلى الأبد". فهذا الكاتب الغيور أولا، يخطئ حينما يقول أن لا يهود باقون في مصر، ثم يكتب اسم ‏معلم مصري تاريخي خطأ (طابا وليست طابة)، ولا يخبرنا من ذا الذي "رصد" محاولات عودة اليهود المصريين إلى مصر. ‏
وأنا لا أدعي بأن لدي كل الحقائق، بل أقوم بدراستي بطريقة تصفية ما لا يتفق عليه الكتاب واختيار ما اتفق عليه الجانبان، مع الميل بأخذ رأي من تضرروا من الطرد أكثر ممن قاموا به. ‏
ينقسم الجيل الأخير من اليهود المصريين، أي الجيل الذي عاصر موجة الهجرة اليهودية من مصر في الخمسينيات من القرن الماضي إلى فئات عديدة ولا يمكن تحديد دوافع وميول اليهود المقيمين في مصر عند ‏منتصف القرن العشرين دون فهم الاختلافات بين تلك الفئات وأصولها. على صعيد المذهب انقسم يهود مصر بشكل أساسي إلى طائفتين، هما الربانيون وهم من يتبعون تعاليم التلمود ويولونها أهمية كبيرة ‏بالإضافة إلى التوراة، والقرائون الذين لا يؤمنون بتعاليم التلمود. وبشكل عام ينظر إلى القرائين على أنهم أقرب اليهود إلى صورة "ابن البلد" ثقافيا وفي الزى واللغة والأنماط الاجتماعية. وأنا أفرق بينهم ‏بتسميتي الفريق الأول بيهود مصر والفريق الثاني بالمصريين اليهود. ‏
تاريخيا توجد روايتان لأصل وجود الطائفة القرائية في مصر وردتا في كتاب بنين نقلا عن صحيفة الكليم وهي جريدة الطائفة في مصر. تقول احدى الروايتان ان الطائفة وصلت مصر مع الفتح الأسلامي وأن ‏عمرو ابن العاص هو من منحهم الأرض المقامة عليها مقابرهم بمنطقة البساتين. وتقول الرواية الثانية انهم أتو في عصر آنان بن دايفيد في القرن الثامن الميلادي. وأيا كانت الرواية الأصح فأن تلك الطائفة بلا ‏شك متأصلة بشكل جعل تطورها التاريخي والاجتماعي مطابقاً لباقي المصريين، واقتصر استخدامهم للغة العبرية على الطقوس الدينية بينما كانت مدارسهم تستخدم اللغة العربية كلغة تعليم أساسية. ومن الملفت ‏للنظر أن انغلاق القرائيين في تجمعاتهم الرئيسية (حارة اليهود ومصر القديمة حول معبد بني عزرا) لم يحدث بسبب أي تهديد من الطوائف المحلية الأخرى، ولكن بسبب هجرة اليهود السفارديم المتزايدة وأغلبهم ‏من الربانيين، والذين قصروا أتصالهم مع العالم الخارجي على العلاقات "الطقوسية والتجارية التي استطاعوا الحفاظ عليها مع زملائهم في جزيرة القرم واسطنبول". ومع أن هذا التبرير يرجع العداء أو ضعف ‏التعاون بين الطائفتين إلى وقت مبكر جدا، إلا أن هناك حقيقة تاريخية هامة في هذا الصدد وهي أن النازيين لم يعتبروا قرائي أوروبا يهودا "لأنهم لا يمتلكون الصفات السيكولوجية لليهود" مما أعفاهم من ‏المحرقة، وهي معلومة كافية لأثارة عداء كل من السفارديم والأشكنازيم أي يهود أوروبا الشرقية. على الجانب الأخر فإن الامتيازات التي حصل عليها المهاجرون الجدد كأجانب في بلد تسيطر عليه القوى ‏الأستعمارية دفع بعض القرائيين للتقرب من الربانيين على الأقل على مستوى العمل للاستفادة من الامتيازات المالية والقانونية الممنوحة للأجانب. ‏
السفارديم والأشكنازيم هو تقسيم أخر مهم لتصنيف يهود مصر. السفارديم هم اليهود الذين تعود اصولهم إلى إسبانيا وتركوها إلى أرجاء العالم أثناء وبعد محاكم التفتيش. أما الأشكنازيم فتعود أصولهم إلى شرق ‏أوروبا وهم العمود الفقري لمؤسسين دولة إسرائيل. ولم يعنى تقسيم السفارديم والاشكينازيم الكثير للقرائين المصريين الذين توضح جميع المصادرة المتاحة أن هويتهم حتى بداية القرن العشرين كانت بالنسبة ‏لهم كونهم يهود قرائيين مصريين فقط، وأنهم شعروا أن صفة سفارديم قد فرضت عليهم من قبل مهاجري إسبانيا الذين عاشوا بشكل منفصل عنهم إلى حد كبير. ‏
أن هذا الشرح للأصول العرقية لليهود في مصر أساسي لفهم موقفهم من الصهيونية وتحولات هذا الموقف. ولكن يجب الانتباه إلى ان ذلك التنوع لم يعن أن كل طائفة يهودية في مصر حافظت على خصوصيتها ‏دون تأثر بالطوائف الأخرى. فحتى اشد اليهود ارتباطا بالهوية المصرية كان يتحدث أكثر من لغة. ويقول أحمد صادق سعد وهو في الأصل أبن لعائلة من السفارديم تحمل الجنسية الأيطالية وأتت إلى مصر من ‏تركيا، "كنا نتحدث الفرنسية والأنجليزية في المدرسة والايطالية في البيت والعربية في الشارع ونسب ونلعن بالتركية" والتحدث بالعربية في الشارع هنا ملحوظة يجب التوقف عندها إذ أنها تدعم فكرة أن اليهود ‏المصريين كانوا مندمجين بدرجة ما في المجتمع المصري، على عكس ما يقوله من يروج لتحولهم إلى الصهيونية بمجرد ظهورها كفكرة. الوقائع تعكس صورة مغايرة تماما لهذا التصور العنصري. فالانحياز ‏الاقتصادي والاجتماعي لشخصيات مثل يوسف شيكوريل ويوسف قطاوي، وهما من الصفوة في المجتمع المصري دفعتهم للانتماء لحزب الوفد أي أنهم تصرفوا وفقا لمعتقد سياسي وليس دينياً. أما رينيه قطاوي ‏زعيم الجالية السيفاردية بالقاهرة، فقد أسس في 1935 جمعية الشاب اليهودي المصري، كان شعارها: "مصر وطننا، العربية لغتنا".، وعارض الصهيونية السياسية بقوة وكتب ملاحظة حول "المسألة ‏اليهودية" إلى التجمع اليهودي العالمي في 1943 جادل فيها بأنّ فلسطين لن تتمكّن من امتصاص لاجئي أوروبا اليهود. ‏
‏ على الرغم من هذا، كان للأجنحة المختلفة من الحركة الصهيونية ممثلون في مصر. كان العالم القرائي اليهودي مراد بك فرج (1866-1956) وطنيا مصريا وصهيونيا متحمسا في نفس الوقت، تعبر قصيدته ‏‏"بلدي مصر، مكان ميلادي"'، عن ولاء ه لمصر، بينما يدافع كتابه، القدسيات (1923)، عن حقّ اليهود في دولة خاصة يهم، ويعتبر أكثر الدفاعات عن الصهيونية بلاغة في اللغة العربية. كما أن فرج كان أيضا ‏أحد المؤلفين لدستور مصر الأول في 1923. أما ليون كاسترو الذي أدار حملة دعائية لحزب الوفد في أوروبا فهو في نفس الوقت رئيس المنظمة الصهيونية بالقاهرة. ‏
ومن المشاهير اليهود المصريين في تلك الفترة الفترة يعقوب صنوع، المصري الوطني الذي ظل يدعو إلى طرد البريطانيين من مصر إلى أن نفوه، فاستمر يحرّر مجلته القومية عزرا أبو نظارة من المنفى. كانت ‏هذه واحدة من أوّل المجلات بالعامية المصرية، معظم ما بها مقالات ساخرة عن البريطانيين والحكم الملكي الذي اعتبره صنوع لعبة في أيدي البريطانيين. ومن اليهود المشاهير أيضا هنري كيوريل، الذي أسّس ‏الحركة المصرية للتحرير الوطني عام 1943، وهي المنظمة التي شكلت فيما بعد نواة الحزب الشيوعي المصري. ولعب كيوريل دورا مهما في تسهيل الاتصالات غير الرسمية المبكّرة بين منظمة التحرير ‏الفلسطينية وإسرائيل.‏
‏***‏
دخلت الصهيونية إلى المجتمع اليهودي المصري تحت أدعاء توحيد جميع اليهود ومناصرتهم ولكن هل فعلت ذلك حقا؟ عندما ظهرت الحركة الصهيونية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر كانت نشطة بشكل ‏أساسي وشبه كامل كحركة خيرية تمول الأنشطة الثقافية والاجتماعية المختلفة، وظلت كذلك حتى الأربعينيات. وفي تلك الحدود لم يكن الكثيرون من اليهود وغيرهم ينظرون لها على أساس أنها تتعارض مع ‏الحس الوطني المصري. بل انه طه حسين اشترك في افتتاح الجامعة العبرية في القدس والتي كانت المنظمات الصهيونية المصرية تمول إنشائها. العمل الخيري وخاصة التعليمي، وسيلة ناجحة للدخول إلى حياة ‏الناس اليومية والتأثير على أفكارهم. وفي عام 1943 وصلت إلى عدة دول عربية مجموعة من مبعوثي القوة الصهيونية المختلفة لنقل النشاط والدعاية السياسية الصهيونية الي يهود هذه المناطق، بعد أن أصبح ‏مثل هذا النشاط غير ممكن في أوروبا مع الحرب العالمية الثانية وانتصارات النازية. وحرص هؤلاء المبعوثون على الإيحاء لليهود المصريين بأن مصير اليهود في أي مكان متشابه، مما يوحي لهم بأهمية أعطاء ‏أولوية لهويتهم اليهودية على أي انتماء أخر لحمايتهم من مصير حتمي. وللأسف فان وصول القوى الألمانية بعد سنوات قليلة إلى الأراضي المصرية قبل هزيمتهم في معركة العلمين كان عامل صدفة ساعد ربما ‏في ترسيخ هذه الفكرة.‏
أن ربط الصهيونية بمقاومة الفاشية في عقل الشباب اليهودي المصري اجتذب العديدين من ذوي الميول اليسارية العامة، وهو ما استغله حزب المابام عبر حركة الرواد المتحدون التي عرفت في مصر بحركة ‏العبري الصغير قبل عام 1948، والتي تبنت ما سمي "الصهيونية الاشتراكية" ونظرت إلى الكيبوتز باعتباره معسكر عمل اشتراكي، في تجاهل مرعب لحقيقة ان أراضي الكيبوتزات، هي أراضي صادرتها ‏سلطات الاحتلال البريطاني من فلاحين فلسطينيين كانوا يزرعون تلك الأرضي بالمشاع، وهي الفكرة الأكثر ملائمة مع الاشتراكية. ولم ينخدع جميع اليهود الاشتراكيين بالدعاية التي تصور الفكر الصهيوني ‏الاستيطاني على أنه نوع من انواع الاشتراكية، فقام هنري كورييل وبرنارد لويس لورانس بمناظرة مع أعضاء الحركة حول الفرق بين الشيوعية والاشتراكية الصهيونية. ولم يستطيع الفكر الصهيوني بشكله ‏الأكثر وضوحا ومباشرة أن يجتذب اليهود المصريين بسهولة في تلك المرحلة. فحتى الرواد المتحدون لم ينجحوا في إرسال أكثر من دفعة واحدة من الشباب المصري اليهودي إلى الكيبوتزات. وكان مجمل اليهود ‏الذين هاجروا إلى إسرائيل بين أعوام 1917-1947 هو 4020 شخصاً كان اغلبهم يهود من اليمن أو المغرب أو يهود اشكينازيم أقاموا في مصر لفترات بسيطة. أما حركة الرواد المتحدين نفسها فلم ترسل من ‏مصر إلى أي كيبوتز سوى مجموعة صغيرة في عام 1937 فقط حتى عودة العمل السري بعد عام 1947. وبدأ تنظيم مجموعات هجرة لإسرائيل تكونت من حوالي خمسين شخص في كل مجموعة. وكانت تلك ‏الأرقام كانت هزيلة جدا في وقت كان يقدر فيه تعداد اليهود في مصر بحوالي 90 ألف نسمة. ‏
كان لابد من حدث على مستوى ما عرف بفضيحة لافون كي يبدأ بشكل جماعي كبير وملحوظ إحساس اليهود المصريين بالخطر واحتياجهم إلى الهجرة الجماعية. عندما حوكم مجموعة من اليهود الشبان بتهمة ‏التجسس لحساب إسرائيل وكانوا قد قاموا بإنشاء خلية قامت بالعديد من أعمال التفجير لمكاتب بريد ودور سينما. ومن ضمن المنضمين إلى تلك الخلية كان الطبيب اليهودي القرائي الدكتور موسى مرزوق الذي ‏أدين وأعدم عام 1955 برغم توسط العديد من الشخصيات القرائية. إن إدانة يهودي قرائي بتهمة التعاون مع إسرائيل، ثم نشوب أول حرب مباشرة بين إسرائيل ومصر في العام التالي، دشنت لمرحلة فاصلة، في ‏حياة اليهود المصريين. فقد أصبحوا أكثر تأثراً بالدعاية الصهيونية والتي كانت تصدر عن الوكالة اليهودية في نيويورك تحديدا، حول أن وضع اليهود المصريين يقارب وضع اليهود في أوروبا النازية. وكان ‏سلفاتور شيكوريل زعيم اليهود السفارديم في مصر قد التقى بمسئولي الوكالة اليهودية في الولايات المتحدة، وأرجع هجمات الأخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة على بعض الممتلكات العائدة لليهود إلى إنشاء ‏دولة إسرائيل، وحاول إقناعهم بحث الحكومة الأمريكية على التدخل ضد قانون تمصير الشركات الصادر مصادفة عام 1957. وكما بدأت هجرة يهود العراق بتفجيرات دبرها عملاء إسرائيل في بغداد لإرهاب ‏اليهود العراقيين، كان لتفجيرات مجموعة موسى مرزوق الدور الأكبر في إثارة التساؤلات حول إمكانية حمل الهويتين اليهودية والمصرية. لقد بدأت الهجرة الجماعية اليهودية من مصر في لحظة تشوش فيها ‏وعي اليهود المصريين بهويتهم وتضاعف شك باقي شعب مصر في انتماء تلك الفئة له.‏
‏******‏
‏ في 14 نوفمبر 1947، قبل خمسة أيام فقط من هذه تصوّيت الهيئة على خطة تقسيم فلسطين قال مندوب مصر هيكل باشا في خطاب رئيسي أمام اللجنة السياسية للجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة ‏‎:‎‏ "يجب أن ‏لا تتغاضى الأمم المتّحدة. . . عن الحقيقة كون الحلّ المقترح قد يعرّض للخطر مليون يهودي يعيشون في البلدان المسلمة. فتقسيم فلسطين قد يخلق في تلك البلدان موجة لمعاداة الساميّة سيصعب القضاء عليها ‏أكثر من تلك التي حاول الحلفاء استئصالها في ألمانيا. . . إذا قررت الأمم المتّحدة أن تقسّم فلسطين، فقد تكون مسؤولة عن مذبحة لعدد كبير من اليهود (...) مليون يهودي يعيشون في سلام في مصر وفي بلدان ‏إسلامية أخرى، ويتمتّعون بكلّ حقوق المواطنة. وهم لا يرغبون في الهجرة إلى فلسطين. ولكن إذا تأسست دولة يهودية، فلن يتمكن أحد من منع الاضطرابات التي ستندلع في فلسطين، وتنتشر في كلّ الدول ‏العربية مما قد يؤدّي إلى حرب بين الشعبين." ‏

امتد تطبيق طرد اليهود لفترة أطول بكثير من فترة المناورات العسكرية. ووصل إلى ذروته فقط بعد إنقلاب الضبّاط الساخطين العائدين من فلسطين على الحكم الملكي. عادت الاضطرابات ضد اليهود إلى الظهور ‏ما بين يونيو ونوفمبر 1948، أثناء الحرب مع إسرائيل، كما يبين ذلك خطاب أرسله أحد المواطنين المصريين إلى جريدة آخر ساعة، يطلب فيها نشر صورته واسمه بالكامل (أدهم مصطفى غالب) وذلك لأنه ‏تعرض عدد من المرات للضرب المبرح كلما استقل الترام، لأنه أوربي الملامح ويعتقد الآخرون بأنه يهودي. ‏
ولكن الهجرة الجماعية ليهود مصر لم تبدأ إلا بعد حرب السويس في 1956، وعدل قانون الجنسية المصري لمنع "الصهاينة" من نيل الجنسية المصرية، ونص القانون العسكري رقم 4 على مصادرة أملاك ‏الأفراد والجمعيات ووضعها تحت إشراف الحكومة، وتلى ذلك السجن أو الطرد. وعرف التعديل على قانون الجنسية لعام 1956 الصهيونية بأنها "ليست دينا بل رابطة روحية ومادية بين من عرفوا بالصهاينة ‏وبين إسرائيل". وأشار مرسوم وزاري في 1958 بأنّه ستتم إضافة كلّ اليهود بين سن العاشرة والخامسة والستّون الذين غادروا مصر إلى قائمة الأشخاص الممنوعين من العودة مجددا إلى البلاد. ومع أن ‏الظروف هدأت بعض الشيء أثناء حكم محمد نجيب، إلا أن وصول جمال عبد الناصر للحكم كان بشيرا لنهاية الجالية اليهودية في مصر. فقد حجز العديد منهم في معسكرات الاعتقال في هوكستيب، وأبو زعبل ‏ولمان طرة وفي صحراء سيناء، حيث أسيئت معاملتهم وأمروا بالأعمال الشاقة الإجبارية، بينما طرد غيرهم من البلاد بأعداد كبيرة، وأجبروا على ترك كلّ أصولهم وممتلكاتهم، ولم يسمح لهم سوى بأخذ حقيبة ‏صغيرة و10 جنيهات إنجليزية للفرد. أما من لم يطرد منهم، فقد أرغموا على الهجرة، بسبب قوانين العمل وإجراءات المنع الأخرى التي فرضتها الحكومة المصرية عليهم. نصفهم هاجر إلى إسرائيل، بينما ذهب ‏النصف الآخر إلى الولايات المتّحدة، كندا، فرنسا، أستراليا، أمريكا الجنوبية وأماكن أخرى. ولم يكن الحصول على الجنسية المصرية نعمة، فعد منع هؤلاء من المغادرة، وأصبحوا بيادقاً سياسية للنظام المصري‎.‎
وهكذا دمرت هذه الجالية الناجحة المزدهرة ذات تاريخ امتد ألفي عام بالكامل في ظرف بضعة سنوات، وفقد يهود مصر ليس فقط كلّ ملكيتهم الشخصية وأصولهم، بل أيضا كلّ التراث الثقافي المادي الغني ‏للجالية: المدارس، المعابد، دور المسنين، والمستشفيات. ولم يخرجوا من مصر سوى بحفي حنين‎.‎

ليست هناك تعليقات: