الأحد، 19 أكتوبر 2008

ازدواجية المثقف العربي

فَاجأَني صديق لي في ثمانيناتِ القرن الماضي بإعجابِه المتحمس لحزب اللهِ الذي كان آنذاك حديث العهد. اعتقدت في بادئ الأمر بأن الإعجابِ نزوةَ عابرة، فالصديق مثقف سوري علمانيِ ويساريِ متغرب عن بلاده في فرنسا. ولكني اصطدمت برد فعله عندما غزت العراق الكويت عام 1990، فهو لم يَستطيعُ إخفاء بهجتَه بضم جيوش صدام حسين للكويت بالقوة، مما جَعلَني أَعتبرُ وجهاتُ نظره اليساريةُ العلمانيةُ هزلا.
وتابع صديقي حياته العملية التي جذبته نحو الكفاح في سبيل حقوقِ الإنسان، فأصدر نشرةَ إخبارية دوريةَ حول حقوقِ الإنسان بدعم مالي أوروبيِ. وخلت نشرته طوال سَنَواتهاِ من حتى مجرد تلميح عن جرائمِ صدام حسين، أو عن حقوقِ النِساءِ، بينما تعمقت علاقاته بثبات في تلك الأثناء بالجماعات الإسلاميةِ العربيةِ، وخاصة الأخوان المسلمين.
بل أن ابتهاجه بضربة الحادي عشر من سبتمبرِ، إضافة إلى إعجابِه الشديد بأسامة بن لادن و"ضربته القاضية في قلبِ أمريكا " لم تكن سوى استمرارية منطقية لبقيّة تطورِه السياسيِ. فبات يبحث باستمرار عن أيه تبريراتَ لأعمالِ العنف التي يقوم بها المتطرفون الإسلاميون، وكأنه مدفوع بذلك المبدأِ العشائريِ العربيِ القديمِ القائل بأن علينا أن نقف وقفة رجل واحد في وجه المعتدي مهما اختلفت وجهات نظرنا وأيديولوجياتنا داخليا.
انقطعت صلتي بذاك الصديق السابق .. ولكني أراه بانتظام يحل ضيفا على القنوات الفضائية العربية، يتحدث بصوته الدافئ الواثق بنفسه عن قضايا حقوق الإنسان، وعن السياسة السورية بشكل عام.
للأسف تنطبق هذه السيرة الشخصية القصيرة بسهولة على غالبية المثقفين العرب: فمعظمهم يتسم بازدواجية المعايير، فيلتحفون عباءات التقاليد العربية الأصيلة في ديارهم بينما تدعي كتاباتهم للقراء الأجانب أراء شدة ما تختلف في انفتاحها على العالم عما يسطرونه للقراء العرب!!
فالمثقف العربي مثله مثل الأب المستبد الذي لا تسمح أعرافه بالكشف عن الفضائح الأسرية علنا مهما كانت سيئة، بل ومهما كان لها أن تتحسن بالكشف ودخول الهواء الطلق. كلا، يجب على الجميع الإبقاء على أكذوبة الصف الواحد. وخير أمثلة على ذلك مواقف المثقفين العرب من فتوة سلمان رشدي، أو العلاقات مع إسرائيل، أو الحادي عشر من سبتمبر، أو الكاريكاتير الدنمركي. ففي الجلسات الخاصة والمسمرات تسمع لهم أراء لا علاقة لها بما تنشره لهم الصحف والمجلات في اليوم التالي، وكأن الآراء التي تنشرها وسائل الإعلام العربية لا أساس لها في التفكير المنطقي المستقل، بل هي تصاغ كجمل انتهازية للاستهلاك الجماهيري!
هناك كاتب مصري يساري مشهور، يحرر دورية أدبية ذات شأن، تجده متحفظا في كلامه عن الجرائم التي ترتكب في حق الإنسان في رواندا أو دارفور أو العراق. ولكنه انفجر غضبا في العام الماضي أثناء أزمة الكاريكاتير الدنمركي، وجر بقلمه مقالات وكأنه من شيوخ الأزهر المخضرمين، مطالبا بمقاطعة المنتجات الدنمركية!! وبعد اعتذار الدنمركيين عما بدر منهم من حرية تعبير، أعاز نفس هذا اليساري الباسل الاعتذار إلى قلق الدنمرك بشأن مبيعات جبنهم، وليس لا سمح الله احترام منهم لدين غيرهم..
ثم هناك الشاعر السوري الذي يتراء للغرب منفيا سياسيا تنال الجماعات الإسلامية والأنظمة العربية وبالا من صوت أشعاره.. مع أن صمته وبياناته في العقود الماضية الأخيرة تشير إلى خلاف ذلك – فالسوري المنفي ليس لديه ما يقوله عن جرائم النظام البعثي السوري في الأربعين عاما الماضية – ربما لم يلاحظها؟ وإن لم يكن هذا بالبيان الكافي، فقد كتب قصيدة يمتدح فيها ثورة آيات إيران، مذكرا الغرب الذي أواه شريدا بأن وجهته تتهالك!
ثم هناك الصحفي والشاعر اللبناني الذي لا يعرف موقفه من بلده! وهو يكتب كثيرا في المجلات الأوربية معلقا على أوضاع الشرق الأوسط، كما يكتب في إحدى الصحف الرئيسية في لبنان، مما يسبب انفصام شخصية حادا لديه. فتجده في 26 و27 يوليو يكتب في صحيفة ألمانية منتقدا الهجوم الفردي لحزب الله على إسرائيل، لدرجة أنه أطلق عليه لقب "انقلاب عسكري"، مؤكدا بأن غالبية اللبنانيين يريدون تنمية بلادهم في سلام. ثم تجده في 28 يوليو يكتب في صحيفته العربية بلغة بليغة عن أعمال نفس الحزب الذي نعته بالإنقلابية، قائلا بأن "حزب الله أزال وصمة العار والذنب، وعوض العرب عن شعورهم بالإحباط" وهلم جرا مدحا في ما قام به.
يعتبر العديد من الكتاب والناشرين العرب أنفسهم علمانيين مستنيرين ذو ملكة نقدية – بمعنى آخر، يعتبرون أنفسهم مفكرين مدافعين عن حرية الكلمة وحقوق الإنسان. ولذلك، على ما يبدو، تعالت أصواتهم بالتكبير في معرض عربي للكتاب بعد مرور شهرين على سقوط مركز التجارة العالمي، لأن أحدهم أطلق شائعة اصطدام طائرة بإحدى العمارات في إيطاليا إعتقدها أنصار حقوق البشرية هؤلاء إعادة لما حدث في نيو يورك! بعض هؤلاء المكبرين من ضيوف المؤتمرات الأوربية التي تدعو إلى التسامح والتعايش. فما يا ترى فائدة هذه المؤتمرات عند انعدام النية الصافية؟

ليست هناك تعليقات: