الأحد، 19 أكتوبر 2008

الفدائية الجهادية – الموجة الجديدة (الجزء الأول)

ما إن وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حتى صدرت أرفف من الكتب تخبر قرائها حول العالم عن ماهية العقائدِ الأساسيةِ للجهادِ وكيف قامت منظمة القاعدةِ بتشويهِها. فالجهاد "موصّى بهُ" وليس فرض على كُلّ المسلمين، إلا أنه قابل لمختلف التفسيرَات — فهناك الجهادُ الأكبر لتَنْقِية الروحِ وعمل الخير وسط الأمة، والجهادِ الأصغر دِفَاعا عن الإسلام إذا صار موضع هجوم. ويحتوى كُلّ صحيح مِنْ الأحاديث النبوية التي جُمِعَها عِدّة علماء مسلمين بعد موتِ النبي بفترة طويلة، على وصف مختلف للجهادِ، مما أدى إلى كون مُناقشةِ الجهادِ دائماً مسألة تفسيراتِ مختلفةِ أكثر منها إتباع حرفيِ.

دعمت الولايات المتحدة والغرب جهادُ المجاهدينِ الأفغانِ ضدّ القوَّاتِ السوفيتيةِ التي غزت أفغانستان في الثمانيناتِ، وحارب فيه حوالي 40 ألف أفغاني، تلقى العديد مِنْهمِ تعليماً إسلامياً وتدريبا عسكريَا دعم بأموالِ وكالة المخابرات المركزيةِ وحصلوا على الملجأِ الآمن مِنْ مديريةِ المخابرات الداخليةِ الباكستانية. ولقي البعضُ حتفهم في القتال، بينما عاد آخرونُ إلى ديارهم لنشر الرسالةِ، أَخْذين مَعهم قوائم طويلة بأسماء من تعرفوا عليهم في جامعةِ الجهادِ التي أَسّسوها في المُدنِ الباكستانيةِ كمدينة بشوار. ثم صارت كلمة الجهادِ في التسعينياتَ كلمةَ سيئة المعنى عندما شرع الأفغان في ذبح بعضهم البعض في حرب أهليةِ داميةِ، ادعى كلا الجانبينِ فيها بأنه يجاهد في سبيل اللهَ. وتبعهم المسلمونُ في أجزاء أخرى مِنْ العالمِ مدعين بأنهم قائمين على الجهاد بقتلهم أخوتهم من المسلمين.

عندما قرّرَ أسامة بن لادن البدء في الجهادَ ضدّ الولايات المتّحدةِ والغربِ مِنْ قاعدتِه الجديدةِ في أفغانستان عام 1996، لم يأخذه الكثيرون مأخذ جد. بل إن عِدَّة تطوراتُ في ذاِك الوَقت لم تحصلْ على الاهتمام المناسب مِنْ الحكوماتِ الغربيةِ: أفغانستان التي صارت مصنع تفريخ جديدِ لجهادِ دولي ضدّ الغربِ بقيادةِ عربيِة، والتمرد الذي دام خمسة عشرَ عاما ضدّ الحكومةِ الهنديةِ في كشمير والذي نشر مهاراتَ التفجير الانتحاري في جنوب آسيا، والحرب الأهليةُ الدائمة في الصومال التي أزالتْ أيّ قوة مركزية واضحة وسمحت لمجموعاتِ الجهاديين المستقلين على البروز في الفوضى الناتجة، بينما ارتأى العالم بأن النزاع الإسرائيلي - فلسطينيُّ لا يمكن حله بعد محاولةُ الرّئيسِ كلنتون الفاشلةِ لتَعزيز السلامِ في نهايةِ إدارتِه، واعتناق عدد متزايد مِنْ الفلسطينيين لأفكارِ الجماعات الإسلاميةِ المتطرّفةِ.

كتابان جديدان نشرا مؤخرا حول هذه الفترةِ المبكرة في التسعينياتِ تجعلك قرأتهما تتسأل إن كان من الممكن تفادي وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر إذا تم نشر الكتابين عشرة أعوام قبل حدوثه؟؟ الأول من هذه الكتب يدعى "بداخل الجهاد" لمؤلفه عمر النصيري وهي سيرة شخصية لجاسوسِ مغربيِ المولدِ اخترق المجموعات الإسلاميةَ في التسعينياتِ لحساب المنظماتِ الاستخبارية الأوروبيةِ. أما الكتاب الثاني فهو للعالمِ نرويجيِ برينجار لايا ويدعى "مهندس الجهاد العالمي"، ويتحدث عن أبو مصعب السوري أحد كبار المخططين في منظمة القاعدةِ الذي اعتقل في باكستان في 2005 وسلّمَ إلى الولايات المتّحدةِ حيث اختفى من النظر ويعتبر من السجناء المفقودين. كلا الكتابين يدور حول الرجالِ الذين نالوا تدريبهم في أوائل التسعينيات داخل المعسكراتِ الإرهابيةِ في أفغانستان— قبل وصول بن لادن إلى هناك — ومَنْ ثمّ سافرواَ إلى دول أوروبا المختلفة لتَعْبِئة المسلمين للجهادِ الدولي الناشئ. كَانتْ المعسكراتُ الأفغانيةُ تُزوّدُهم بالتدريب العسكريَ والتقنيَ، وبالتعاليمَ الأيديولوجيَة، وعلاقات عالميةَ متشعبة جديدةَ في وقت سبق وصول القاعدةَ في موقع الأحداث بكثير.

إلا أن الشباب الذين تَدرّبوا في هذه المعسكراتِ لَمْ ينالوا تعليما من المَدارِسِ الإسلاميةِ الدينية ولم تلهمهم الأفكار الإسلاميةِ المتطرّفةِ بقدر ما ألهمتهم رغبتهم في رُؤية العالمِ، وحمل الأسلحةَ، والمغامرةُ. بالنسبة للكثيرين كَانَ هذا هو عالمَ الألعابِ الحقيقةِ. كتب النصيري (وهو اسم مستعار) يقول

"أدركتُ بأنّني حَلمتُ بهذه اللحظةِ لسَنَواتِ. كنت وسط جبالِ أفغانستان والنار تطلق حولي من كل الجهات. . . . هنا المسدساتَ والبنادق الهجوميةَ وقذائف الهاونَ تطرق الجبل كلها معا كالجوقةِ. كنت ارتعش أحياناً وأحمد الله على أنه جاء بي إلى هنا."

كان يمكن حينها كسب هؤلاء الشبابِ نحو شيءِ بناء أكثر من القتال الداميِ لو أن الأنظمةَ الإسلاميةَ والبلدانَ الغربيةَ تداركت ما يجري. ولكن برامجُ التعليمِ البديلةِ اليوم التي تُعلّمُ مهاراتَ مفيدةَ — وتعتبر الإستراتيجيةَ الرئيسيةَ لمكافحة الجهادِ في العراق وأفغانستان والمملكة السعودية، وغيرها — جاءت غير كافية تماما ومتأخرة للغاية، كما أنها تواجه صعوبات جمة فيً التَنفيذ لأن الإرهابيين الآن صاروا محنّكين فكرياً أكثر بكثير مما كانوا عليه في أوائل التسعينيات.

انتهت فترةِ الغسقِ تلك بعودةِ بن لادن إلى أفغانستان عام 1996 إذ قام بإعادة تنظيم العرب والأجانب الآخرينَ الذين قبلوا به زعيما لهم، مقدما لهم تفسيراَ جديدَا للجهادِ كحرب لا شروط لها ولا تنتهي ضدّ الغربِ و"سدنته" في العالمِ الإسلاميِ. ومع قَصفْ منظمة القاعدةَ لسفارتي الولايات المتحدة في أفريقيا عام 1998، مسببة خسائر كبيرةَ في الأرواح وسط المسلمين الأفارقة، أعلن بن لادن بوضوح يُعلنُ بأنّ قتل المسلمين والنِساءِ والأطفالِ جزءَ شرعيَ مِنْ اللعبةِ، بالرغم من تحريم القرآن لإصابة المدنيينِ في الحربِ وما يفرضه خصوصاً حول حِماية النِساءِ والأطفالِ.

لم يشك أحدُ في الغربِ حينها إلى أي مدى حرف بن لادن تعاليم الإسلام، فوسائله ليس بها ما يتعلق بالدينِ بل كلها تعمل على كَسْب السلطة والتأثيرِ السياسيِ. لَمْ يَعُدْ الجهاد مناورةَ دفاعيةَ بل سلاحَ هجوميَ ارتقى بمفهوم الاستشهاد. لكُلّ دين شهدائُه — لنتذكر هنا المَسِحِيِّين الأوَائِلِ واليهود وهم يتحدون الإمبراطورية الرومانيةَ — كما أن للإسلام مجموعة من الشهداءِ. لكن القرآنَ يُحرّمُ الانتحار بشكل واضح، فلم يستشهد في الإسلام إلا من كانت هذه هي وسيلته الأخيرة في الحياة، وأبدا ليس بطريقة مخطط لها عمدا، إلى أنْ بَدأتْ منظمة القاعدةُ بقلب النصوصِ الدينيةِ رأسا على عقب. ويري العديد مِنْ المعلّقين في هذا التغيير الجذري في مفهومِ الاستشهاد ترخيصا للإرهابِ الإسلاميِ الحديثِ.
كانت منظمة القاعدة قبل أحدات الحادي عشر من سبتمبر تنفّذْ المهمّات الانتحارية جنبا إلى جنب مع الجهاد على ساحات المعارك التقليديةِ، داعمة لحلفائها من حكومة الطالبان والإرهابيين في كشمير، رؤساء حرب العصابات في الصومالِ. ومن يصورهم النصيري ولايا من المتطرّفينُ أبان التسعينياتِ ما كَان ليجول بخاطرهم إنهاء حياتهم في هجوم انتحاري متعمّدِ — فقد كانوا مستمتعين بشدة عِنْدَهُمْ بَنْشرُ الجهادَ حول العالم. صحيح أن القاعدة لا تزال منشغلة بحروبِ العصابات التقليديةِ، كما هو الأمر في العراق وأفغانستان، إلا أن مفهوم الجهاد لدي القاعدة وحلفائِها الدوليين اليوم، بعد مرور سبعة سنوات على الحادي عشر من سبتمبر، يعني بشكل متزايد أمراَ واحدا — عملية تفجير انتحارية. وهو التغييرُ الأيديولوجي الذي علينا مواجهته. فحاليا لا يعتبر المرء مجاهداً جيداً ما لم يَقْتلَ نفسه وآخرين – الكثير من الآخرين – في عملية انتحارية. وقد مر التفسيرَ المتطرّفَ للجهادِ في الفترةِ التالية لأحداث سبتمبر بتحول جذري آخرِ، فانحط ليصير عبادة لعمليات التفجير الانتحارية ضدّ أَيّ كان وبلا دافع معقول في أغلب الأحيان. ونرى عند مشاهدتنا أشرطة الفيديو التي يصورها هؤلاء :الشهداء" قبيل تفجيرهم لأنفسهم مباشرة، نراهم يميلون إلىُّ تَعنيف مُشاهديهم بعباراتِ مثل "نحن نعشق الموت بينما أنتم الأمريكان تعشقون الحياةً." وعندما تعرض هذه الأشرطة على قنوات التلفزيونِ الغربيِ فهي تجعل المسلمين والإسلام يبدو سخيفا جداً وشبه مجنونِ في نظر المشاهدين، وتُساعدُ على تأجيج الخوف من الأجانبَ ومعاداةَ المسلمين في الغربِ — والخوف من الأجانبِ يُساعدُ تباعاً على تَزويد رُتَبِ القائمين بالعمليات الانتحارية في العراق، أفغانستان، وباكستان بمُجنَّدين جدد، فتصبح حلقة مفرغةُ لا خروج منها.


ليست هناك تعليقات: