ولكن بالرغم من كل ما سبق ذكره فإن مفهوم الجهاد يتغير باستمرار، كما يثبت ذلك مايكل بونر في كتابه الشيق "الجهاد في التاريخ الإسلامي". فهو يقول بأن نجاح الإسلام في بدايته يرجع إلى توحد البدو العرب في أمة يعرفها الإيمان بالله ومن أهم مميزاتها الاعتناء بالفقراء: "فأكثر النشاطات بروزا في هذه الجماعة المكية هو الكرم والعناية بالفقراء والمحتاجين.. ولا يمكننا أن نشك مطلقا بأن كل ذلك تضمن تغييرا عميقا على المستوى السياسي والاجتماعي في بلاد العرب." ولكن الدعم الاجتماعي في الدول المسلمة المعاصرة يكاد مع الأسف أن يكون منعدما، لأن غالبية النخب المسلمة، إسوة بالمتشددين من الإسلاميين، يتجاهلون كون للدولة مسؤولية تجاه المجتمع المدني والفقراء ولا يلتزمون بأي إصلاح اجتماعي ذو شأن مما ساعد على خلق الأزمات في العديد من الدول المسلمة. ومع ذلك يفهم غالبية المسلمين دينهم على أنه مهتم برفاهية المحتاجين – وما علينا سوى ملاحظة كثرة الاستشهاد بالإسلام كدين مسالم والبلايين التي يدفعها المسلمون نقدا كزكاة للفقراء. ومع بروز فترة التوسع في التاريخ الإسلامي أصبح الجهاد أيديولوجية امبريالية تعضد النجاحات العسكرية، ليصبح أداة دفاعية في القرنين الثامن والتاسع عشر ضد توسعات البريطانيين والفرنسيين والروس داخل العالم الإسلامي. ويقول بونر في كتابه أنه "ليس هناك في تاريخ الجهاد الإسلامي الطويل ما يحكم علينا بالعنف والفشل المتكرر. فتاريخ الجهاد اشتمل باستمرار على إحياء الصور والتعبيرات القديمة ولكنه في نفس الوقت كان دائما تاريخا لمؤسسات سياسية جديدة وحلول جديدة مبتكرة." فلننظر إلى أفغانستان على سبيل المثال – لم يقع هجوم انتحاري واحد طوال حرب الأفغان الطويلة ضد السوفييت والتي دامت عشرة سنوات. وكان أول هجوم انتحاري لمنظمة القاعدة هو اغتيال أحمد شاه مسعود، القائد الأفغاني المحبوب والمعادي للطالبان، على أيدي اثنين من مقاتلي التنظيم، والذي وقع قبل يومين من أحداث المركز التجاري العالمي في نيو يورك. ولم يتبع ذلك سوى قلة من الانفجارات حتى عام 2004، عندما قام المتمردون الطالبان بستة هجمات ضد القوات الأمريكية والأفغانية الحكومية، تلاها انفجار في عدد الهجمات الانتحارية: 21 عام 2005، 136 عام 2006 و 137 عام 2007. ويزداد عدد ضحايا المجازر يوما بعد يوم، فقد ارتفع عدد القتلى العام الماضي بنسبة 50 بالمائة بالرغم من أن عدد الهجمات بقى تقريبا كما هو. ففي عام 2006 قتل 1100 شخص أثر الهجمات الانتحارية، بينما ارتفع هذا العدد إلى 1730 في العام التالي. وقد ضرب الطالبان أهداف مكشوفة فقتلوا 900 شرطي أفغاني و40 من موظفي المنظمات المانحة للمعونة في العام الماضي وحده في مختلف أنواع الهجمات، ومنها الانتحارية أيضا. أما هجمات المسلحين من الطالبان وأفراد منظمة القاعدة فقد نالوا من حياة الكثيرين غيرهم. والذي جعل الهجمات الانتحارية ممكنا هو التدريب والتلقين الجديدين الذين تقوم بهم منظمة القاعدة، إضافة إلى تجارة مزدهرة بالمخدرات التي وفرت للطالبان ومنظمة القاعدة كميات ضخمة من الأموال يستعملونها في تعويض أسر الانتحاريين الشباب. وما يزيد الأمر مأسوية هو أن الأطفال والنساء حاليا يعتبرون أهداف حلال – ففي السادس من نوفمبر 2007 قتل 72 مواطن أفغاني بمدينة بلغان أثر هجوم انتحاري، كان من بينهم 5 أعضاء من مجلس الشعب و59 تلميذا، بينما أصيب 93 تلميذ غيرهم بجراح. ويقوم الطالبان حاليا على تفجير المدارس في أفغانستان بانتظام مريع، مما أجبر 600 مدرسة من مجموع 8500 على إغلاق ابوابها، وفقد 30 ألف طالب حقهم في التعليم جراء ذلك. كما قتل ما يزيد على 150 معلم. *** تصف مجموعة المقالات التي قام بتحريرها روبرت كروز وأحمد طرزي تحت عنوان "الطالبان وأزمة أفغانستان"، تصف كيف قام الطالبان بإعادة تعريف أنفسهم من خلال التعبئة الجديدة والشبكات الدولية في باكستان والدول المجاورة وبمساعدة منظمة القاعدة. وتم تمويل هذا النمو بأموال تجارة الأفيون وغيره من المخدرات. كما تصف المقالات كيف صارت حركة الطالبان حركة دولية مع وصول المدربين من العراق وباقي الدول العربية إلى معسكرات الطالبان لتلقين الإنتحاريين. ويقول عبد القادر سنو في مقالته "شرح قدرة الطالبان على تعبئة قبائل الباشتو" أن الولايات المتحدة تعاب لعدم تفكيك قوات الباشتو والتخلص من قادتهم العسكريين بعد هزيمة السوفييت في أفغانستان، مما أعطي الإقليم "رموز دولة وهمية" في وقت سابق على حينه، مضيفا أنه كان "الأحرى على الولايات المتحدة وعملائها القيام بما قام به الطالبان قبلهم – أي تفكيك أي بني قوة منافسة لهم – بدلا من التركيز على خلق دولة من العدم." أما في مقالته "القرآن والكلاشينكوف واللابتوب" يقول الكاتب الإيطالي أنطونيو جيوستوزي بأنه وبعد انتصارات 2001 أرادت الولايات المتحدة الحصول على رضا أمراء الحرب الأفغان وبالتالي رفضت أن تنزع عنهم السلاح آملة بأنهم سيقومون على حماية الأمن والنظام في أفغانستان بينما القوات الأمريكية منشغلة بالحرب في العراق. لم تستثمر الولايات المتحدة أموالها جيدا في أفغانستان ولا بالصورة الكافية، إن كان ذلك من حيث قتال الطالبان أو بناء المؤسسات الحاكمة. ونحن نرى نتائج ذلك اليوم مع ارتفاع عدد الهجمات الانتحارية والعسكرية من قبل الطالبان والرفض المتزايد للدول الأوربية إرسال رجالها إلى أرض المعارك كجزء من قوات حلف شمال الأطلسي. وكنتيجة لإنشاء الطالبان وحلفائهم من المتطرفين لقواعد في المناطق القبلية الواقعة على الحدود مع باكستان لضرب الجيش والاستخبارات والشرطة في كل من البلدين، ارتفع عدد الهجمات الانتحارية في باكستان من ستة عام 2006 إلى 56 عام 2007 راح ضحيتها 217 مدني و419 من رجال الأمن. وكان من أكبر انتصارات الطالبان في باكستان اغتيال بانزير على بوتو في روالبيندي يوم 27 ديسمبر العام الماضي بمدينة روالبيندي قبل عشرة أيام من الانتخابات التي كان يتوقع لها أن تفوز بها، والتي فاز بها حزبها بالرغم من ذلك في فبراير 2008. وفي الأشهر الأربعة الأولي من 2008 وقع 19 هجوم انتحاري داخل باكستان، قتل فيه 274 رجل أمن وأصيب مئات غيرهم بجروح. في كل من أفغانستان وباكستان هناك حملاتَ نظّمتهاْ القاعدةِ وجماعات الطالبانِ الأفغانِ والباكستانيون، ومجموعاتِ إسلاميةِ أخرى من وسط آسيا لزَعْزَعَة أمن البلادِ، وهي حملات تدعم بعضها البعض وإن كانت مستقلة في حد ذاتها. ومِنْ بين الانتحاريين الأوائل كَان هناك العديد من الأيتامَ الباكستانيينَ والأفغانَ أَو المراهقين المرضى عقلياً، تم تجنيدهم مِنْ الملاجئِ، وبيوت الأيتام، ومخيّماتِ اللاجئين الأفغان في باكستان. كان تَوقّعَ زعماءَ الطالبان بأنّ تضحية هؤلاء ستأتي بموجةَ من المُجنَّدين أكثر قدرة والتزاما توقعا صحيحا، فقد ظهر الآن نظام تجنيد شبيه بأحزمة النقل الآلية في المصانع. يتم تجنيد المراهقينُ المتحمسين مِنْ الخلاوي في باكستان في منطقةِ قبائل الباشتو على طول الحدودِ مَع أفغانستان، ويَنتقلونَ من ملجأ آمن إلى آخر ملتقين مختلف أشكالَ التدريب. فالذين سيصبحون قنابل بشرية، على سبيل المثال، يتعلمون بأن عليهم خفض رؤوسِهم عند َسْحبَ فتيل القنبلة حتى تنفجر مع القنبلة ويستحيل معرفة القائم بالهجوم. وفي هذه الأثناء تقوم فرقُ منفصلةُ باختيار الأهدافُ المستقبلية في أفغانستان. يقول مسؤولو المخابرات الأوروبية في كابول وإسلام آباد بأن الموارد المطلوبة للقائمين بالعمليات الانتحارية من قادة، ومجندين، وتدريب، وتلقينِ، وموادِ — تقع كُلّها على الجانبِ الباكستانيِ من الحدودِ، حيث لم تقم السلطاتُ الباكستانية بعمل الكثير في سبيل التخلص منهم حتى الآن. ويعتبر وجودُ بن لادن، الذي تعتقد المخابرات الأمريكيةِ بأنَّه على الجانبِ الباكستانيِ للحدودِ إلهامِا لأعضاء التنظيم. فقد أصبح إنتاجُ الأحزمةِ الإنتحاريةِ في منطقةِ الباشتوِ العشائريةِ صناعة منزليةَ، لا تختلف كثيرا عن أي نشاط حرفي يدوي محليِّ آخر في العالم الثالثِ. تقوم أحد الأسر على حياكة الحزام وتصنع أسرة ثانية الفتيل بينما تتخصص ثالثة في صب محمل الكوريات إلخ. ثم يقوم الطالبان بجمعها وتسديد ثمنها. ويدعي هؤلاء بأن مئات من الشباب يصطفون راغبين في الانضمام إلى صفوف الانتحاريين، وبأن مشكلتهم الرئيسية تكمن في إيجاد أهداف مفيدة وفي نقص العبوات المتفجرات. وفي حين أن غالبية الانتحاريين في باكستان من أهل تلك الدولة، ففي أفغانستان تتضمن أعدادهم الأفغان والباكستانيين وسكان منطقة كشمير وأشخاص من وسط آسيا وشيشان وأخيرا تركي مولود في ألمانيا دخل بسيارته الملغومة في الثالث من مارس إلى مخفر عسكري أمريكي بالقرب من مدينة خوست، قاتلا جنديين أمريكيين واثنين من الأفغان، بينما أصيب 15 آخرون بالجراح. يَحْملُ حزامُ نقل إنسانيُ مماثلُ الأفارقة، والعرب، والأوربيون إلى العراق، لا لغرضِ إلا ليُفجّرُوا أنفسهم. بلغ معدلُ مِنْ ثمانية عشرَ الهجمات الانتحارية في العراق في أبريل هذا العام ثمانية عشر انفجارا مقابل ثمانية في الشّهر عام 2007، طبقاً لناطق عسكري أمريكيِ في بغداد. عبادة الانتحار أَصْبَحتْ مقبولة لدرجة أن مقاتلين عاديينِ في منظمة القاعدةِ يَلْبسونَ الآن الأحزمةَ المتفجرة كجزء مِنْ عدتهم عند خوضهم معاركَ تقليديةَ ضد القوات الأمريكيةِ. فالأحزمة تَمْنعُ أخذهم أسرى أحياء، وتَسْمحُ لهم بقَتْل الأمريكان حتى عندما يَمُوتونَ، ولكنها قبل هذا وذاك تَرضي رغبةً مرتديها للعَيْش مع فكرةَ الاستشهاد واعتناقها بشكل ثابت ِ. ومع ذلك فإن تكتيك العمليات الانتحارية لا يؤدي إلى انتصار في الحروب أو إسقاط أنظمة أو التأثير في معتقدات السكان المحليين المترسخة. ولا يمكن للانتحاريين طرد القوات الأمريكية من العراق أو قوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان. ولكن لهذه العمليات أن تخلق وسط السكان شعورا واسع الانتشار بالرعب والحيرة وعدم الأمان تجعل أية محاولات من قبل مؤسسات الدول والقوات الغربية لكسبهم إلى صفهم عقيمة بشكل متزايد. العمليات الانتحارية لا تؤدي إلى نصر المتمردين، ولكنها تخلق ورطة سياسية تكاد تصل إلى حد الفوضى لا تستطيع القوات الحكومية فيها الانتصار ولا يتسنى لإعادة البناء أن تتم. ويمكن أن تستمر الحرب ما دام هناك إرهابيون راغبين في الانتحار منفجرين. وللأسف، فشل القادة السياسيون وعلماء الإسلام في مواجهة هذا الهجوم بواحد مضاد، فلم يدينه بصفته أمرا محرما إلا قلة من علماء الدين البارزين، ولم يعترضوا على عدم شرعيته في الإسلام لكون الانتحار في حد ذاته حراما. ويقول أخرون من علماء الإسلام أنه في حين تعتبر العمليات الانتحارية ضد المسلمين حراما إلا أنها حلال ضد القوات الغربية الكافرة. وفي باكستان لم يدين أي من القادة الإسلاميين الكبار منظمة القاعدة وحلفائها علنا، بل أن معظم القادة الدينيون في حالة نكران للواقع، ويصرون جهارا نهارا بأنه لا وجود لشيء اسمه منظمة القاعدة وبأن الأمر برمته من وحي خيال الساسة الأمريكيين كوسيلة للتحكم في العالم الإسلامي. حاول المسؤولون الأمريكيون كسب ود من يدعونهم بالمسلمين المعتدلين إلى جانبهم ولكن هذه السياسة أثبتت فشلها بشكل ذريع. فالمسلمون أنفسهم حاليا يجدون صعوبة في تعريف ما هو معتدل لمجرد أن حتى المسلمين الليبراليين والمتعلمين في الغرب يعارضون سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بشدة. وقد يكون من الأفيد تعريف المسلمين الليبراليين على أنهم يعارضون التطرف، إلا أن عدد هؤلاء قليل للغاية. وبسبب الجهل المتفشي في الدول الإسلامية، صارت كلمة "ليبرالي" في حد ذاتها كلمة قذرة عندما يصف بها أحد القادة المسلمين، الذين يخافون من أن يؤدى هذا الوصف بهم إلى مواجهة مطالب بتطبيق الديمقراطية، في حين تشعر نخبة علماء الدين بأن فكرة الليبرالية في حد ذاتها تهدد وجودهم. هناك في واقع الأمر الكثير من النقاش في باكستان والدول الإسلامية الأخرى حول ما هو التطرف – نقاش في الصحف والجامعات وداخل المؤسسات الحكومية. إلا أنه ما لم تقم السلطات الحكومية في المنطقة بالترويج بشكل نشط لإسلام معتدل، وتكافح التطرف بشكل واضح، فإن المجتمع المدني في هذه الدول أضعف من أن يقوم بذلك لوحده. وبالإضافة إلى ذلك، لا يستطيع الغرب كسب الحجج الدينية مطلقا ما دام استمر في احتلال العراق والدول الإسلامية الأخرى عسكريا.
الثلاثاء، 4 نوفمبر 2008
الفدائية الجهادية – الموجة الجديدة (الجزء الثاني)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق