الثلاثاء، 4 نوفمبر 2008

الفدائية الجهادية – الموجة الجديدة (الجزء الثاني)

ولكن بالرغم من كل ما سبق ذكره فإن مفهوم الجهاد يتغير باستمرار، كما يثبت ذلك مايكل بونر في كتابه الشيق "الجهاد في التاريخ ‏الإسلامي". فهو يقول بأن نجاح الإسلام في بدايته يرجع إلى توحد البدو العرب في أمة يعرفها الإيمان بالله ومن أهم مميزاتها الاعتناء ‏بالفقراء: "فأكثر النشاطات بروزا في هذه الجماعة المكية هو الكرم والعناية بالفقراء والمحتاجين.. ولا يمكننا أن نشك مطلقا بأن كل ذلك ‏تضمن تغييرا عميقا على المستوى السياسي والاجتماعي في بلاد العرب."‏

ولكن الدعم الاجتماعي في الدول المسلمة المعاصرة يكاد مع الأسف أن يكون منعدما، لأن غالبية النخب المسلمة، إسوة بالمتشددين من ‏الإسلاميين، يتجاهلون كون للدولة مسؤولية تجاه المجتمع المدني والفقراء ولا يلتزمون بأي إصلاح اجتماعي ذو شأن مما ساعد على خلق ‏الأزمات في العديد من الدول المسلمة. ومع ذلك يفهم غالبية المسلمين دينهم على أنه مهتم برفاهية المحتاجين – وما علينا سوى ملاحظة ‏كثرة الاستشهاد بالإسلام كدين مسالم والبلايين التي يدفعها المسلمون نقدا كزكاة للفقراء.‏

ومع بروز فترة التوسع في التاريخ الإسلامي أصبح الجهاد أيديولوجية امبريالية تعضد النجاحات العسكرية، ليصبح أداة دفاعية في القرنين ‏الثامن والتاسع عشر ضد توسعات البريطانيين والفرنسيين والروس داخل العالم الإسلامي. ويقول بونر في كتابه أنه "ليس هناك في تاريخ ‏الجهاد الإسلامي الطويل ما يحكم علينا بالعنف والفشل المتكرر. فتاريخ الجهاد اشتمل باستمرار على إحياء الصور والتعبيرات القديمة ولكنه ‏في نفس الوقت كان دائما تاريخا لمؤسسات سياسية جديدة وحلول جديدة مبتكرة." ‏

فلننظر إلى أفغانستان على سبيل المثال – لم يقع هجوم انتحاري واحد طوال حرب الأفغان الطويلة ضد السوفييت والتي دامت عشرة سنوات. ‏وكان أول هجوم انتحاري لمنظمة القاعدة هو اغتيال أحمد شاه مسعود، القائد الأفغاني المحبوب والمعادي للطالبان، على أيدي اثنين من ‏مقاتلي التنظيم، والذي وقع قبل يومين من أحداث المركز التجاري العالمي في نيو يورك. ولم يتبع ذلك سوى قلة من الانفجارات حتى عام ‏‏2004، عندما قام المتمردون الطالبان بستة هجمات ضد القوات الأمريكية والأفغانية الحكومية، تلاها انفجار في عدد الهجمات الانتحارية: ‏‏21 عام 2005، 136 عام 2006 و 137 عام 2007. ويزداد عدد ضحايا المجازر يوما بعد يوم، فقد ارتفع عدد القتلى العام الماضي ‏بنسبة 50 بالمائة بالرغم من أن عدد الهجمات بقى تقريبا كما هو. ففي عام 2006 قتل 1100 شخص أثر الهجمات الانتحارية، بينما ارتفع ‏هذا العدد إلى 1730 في العام التالي. وقد ضرب الطالبان أهداف مكشوفة فقتلوا 900 شرطي أفغاني و40 من موظفي المنظمات المانحة ‏للمعونة في العام الماضي وحده في مختلف أنواع الهجمات، ومنها الانتحارية أيضا. أما هجمات المسلحين من الطالبان وأفراد منظمة ‏القاعدة فقد نالوا من حياة الكثيرين غيرهم.‏

والذي جعل الهجمات الانتحارية ممكنا هو التدريب والتلقين الجديدين الذين تقوم بهم منظمة القاعدة، إضافة إلى تجارة مزدهرة بالمخدرات ‏التي وفرت للطالبان ومنظمة القاعدة كميات ضخمة من الأموال يستعملونها في تعويض أسر الانتحاريين الشباب. وما يزيد الأمر مأسوية هو ‏أن الأطفال والنساء حاليا يعتبرون أهداف حلال – ففي السادس من نوفمبر 2007 قتل 72 مواطن أفغاني بمدينة بلغان أثر هجوم انتحاري، ‏كان من بينهم 5 أعضاء من مجلس الشعب و59 تلميذا، بينما أصيب 93 تلميذ غيرهم بجراح. ويقوم الطالبان حاليا على تفجير المدارس في ‏أفغانستان بانتظام مريع، مما أجبر 600 مدرسة من مجموع 8500 على إغلاق ابوابها، وفقد 30 ألف طالب حقهم في التعليم جراء ذلك. ‏كما قتل ما يزيد على 150 معلم. ‏

‏***‏

تصف مجموعة المقالات التي قام بتحريرها روبرت كروز وأحمد طرزي تحت عنوان "الطالبان وأزمة أفغانستان"، تصف كيف قام الطالبان ‏بإعادة تعريف أنفسهم من خلال التعبئة الجديدة والشبكات الدولية في باكستان والدول المجاورة وبمساعدة منظمة القاعدة. وتم تمويل هذا ‏النمو بأموال تجارة الأفيون وغيره من المخدرات. كما تصف المقالات كيف صارت حركة الطالبان حركة دولية مع وصول المدربين من ‏العراق وباقي الدول العربية إلى معسكرات الطالبان لتلقين الإنتحاريين. ويقول عبد القادر سنو في مقالته "شرح قدرة الطالبان على تعبئة ‏قبائل الباشتو" أن الولايات المتحدة تعاب لعدم تفكيك قوات الباشتو والتخلص من قادتهم العسكريين بعد هزيمة السوفييت في أفغانستان، مما ‏أعطي الإقليم "رموز دولة وهمية" في وقت سابق على حينه، مضيفا أنه كان "الأحرى على الولايات المتحدة وعملائها القيام بما قام به ‏الطالبان قبلهم – أي تفكيك أي بني قوة منافسة لهم – بدلا من التركيز على خلق دولة من العدم." ‏

أما في مقالته "القرآن والكلاشينكوف واللابتوب" يقول الكاتب الإيطالي أنطونيو جيوستوزي بأنه وبعد انتصارات 2001 أرادت الولايات ‏المتحدة الحصول على رضا أمراء الحرب الأفغان وبالتالي رفضت أن تنزع عنهم السلاح آملة بأنهم سيقومون على حماية الأمن والنظام في ‏أفغانستان بينما القوات الأمريكية منشغلة بالحرب في العراق. لم تستثمر الولايات المتحدة أموالها جيدا في أفغانستان ولا بالصورة الكافية، ‏إن كان ذلك من حيث قتال الطالبان أو بناء المؤسسات الحاكمة. ونحن نرى نتائج ذلك اليوم مع ارتفاع عدد الهجمات الانتحارية والعسكرية ‏من قبل الطالبان والرفض المتزايد للدول الأوربية إرسال رجالها إلى أرض المعارك كجزء من قوات حلف شمال الأطلسي. ‏

وكنتيجة لإنشاء الطالبان وحلفائهم من المتطرفين لقواعد في المناطق القبلية الواقعة على الحدود مع باكستان لضرب الجيش والاستخبارات ‏والشرطة في كل من البلدين، ارتفع عدد الهجمات الانتحارية في باكستان من ستة عام 2006 إلى 56 عام 2007 راح ضحيتها 217 ‏مدني و419 من رجال الأمن. وكان من أكبر انتصارات الطالبان في باكستان اغتيال بانزير على بوتو في روالبيندي يوم 27 ديسمبر العام ‏الماضي بمدينة روالبيندي قبل عشرة أيام من الانتخابات التي كان يتوقع لها أن تفوز بها، والتي فاز بها حزبها بالرغم من ذلك في فبراير ‏‏2008. وفي الأشهر الأربعة الأولي من 2008 وقع 19 هجوم انتحاري داخل باكستان، قتل فيه 274 رجل أمن وأصيب مئات غيرهم ‏بجروح. ‏

في كل من أفغانستان وباكستان هناك حملاتَ نظّمتهاْ القاعدةِ وجماعات الطالبانِ الأفغانِ والباكستانيون، ومجموعاتِ إسلاميةِ أخرى من ‏وسط آسيا لزَعْزَعَة أمن البلادِ، وهي حملات تدعم بعضها البعض وإن كانت مستقلة في حد ذاتها. ومِنْ بين الانتحاريين الأوائل كَان هناك ‏العديد من الأيتامَ الباكستانيينَ والأفغانَ أَو المراهقين المرضى عقلياً، تم تجنيدهم مِنْ الملاجئِ، وبيوت الأيتام، ومخيّماتِ اللاجئين الأفغان في ‏باكستان. كان تَوقّعَ زعماءَ الطالبان بأنّ تضحية هؤلاء ستأتي بموجةَ من المُجنَّدين أكثر قدرة والتزاما توقعا صحيحا، فقد ظهر الآن نظام ‏تجنيد شبيه بأحزمة النقل الآلية في المصانع. يتم تجنيد المراهقينُ المتحمسين مِنْ الخلاوي في باكستان‎ ‎في منطقةِ قبائل الباشتو على طول ‏الحدودِ مَع أفغانستان، ويَنتقلونَ من ملجأ آمن إلى آخر ملتقين مختلف أشكالَ التدريب. فالذين سيصبحون قنابل بشرية، على سبيل المثال، ‏يتعلمون بأن عليهم خفض رؤوسِهم عند َسْحبَ فتيل القنبلة حتى تنفجر مع القنبلة ويستحيل معرفة القائم بالهجوم. وفي هذه الأثناء تقوم ‏فرقُ منفصلةُ باختيار الأهدافُ المستقبلية في أفغانستان‏‎.‎‏ ‏

يقول مسؤولو المخابرات الأوروبية في كابول وإسلام آباد بأن الموارد المطلوبة للقائمين بالعمليات الانتحارية من قادة، ومجندين، وتدريب، ‏وتلقينِ، وموادِ — تقع كُلّها على الجانبِ الباكستانيِ من الحدودِ، حيث لم تقم السلطاتُ الباكستانية بعمل الكثير في سبيل التخلص منهم حتى ‏الآن. ويعتبر وجودُ بن لادن، الذي تعتقد المخابرات الأمريكيةِ بأنَّه على الجانبِ الباكستانيِ للحدودِ إلهامِا لأعضاء التنظيم. فقد أصبح إنتاجُ ‏الأحزمةِ الإنتحاريةِ في منطقةِ الباشتوِ العشائريةِ صناعة منزليةَ، لا تختلف كثيرا عن أي نشاط حرفي يدوي محليِّ آخر في العالم الثالثِ‏‎.‎‏ تقوم ‏أحد الأسر على حياكة الحزام وتصنع أسرة ثانية الفتيل بينما تتخصص ثالثة في صب محمل الكوريات إلخ. ثم يقوم الطالبان بجمعها وتسديد ‏ثمنها. ويدعي هؤلاء بأن مئات من الشباب يصطفون راغبين في الانضمام إلى صفوف الانتحاريين، وبأن مشكلتهم الرئيسية تكمن في إيجاد ‏أهداف مفيدة وفي نقص العبوات المتفجرات. وفي حين أن غالبية الانتحاريين في باكستان من أهل تلك الدولة، ففي أفغانستان تتضمن ‏أعدادهم الأفغان والباكستانيين وسكان منطقة كشمير وأشخاص من وسط آسيا وشيشان وأخيرا تركي مولود في ألمانيا دخل بسيارته ‏الملغومة في الثالث من مارس إلى مخفر عسكري أمريكي بالقرب من مدينة خوست، قاتلا جنديين أمريكيين واثنين من الأفغان، بينما أصيب ‏‏15 آخرون بالجراح. ‏

يَحْملُ حزامُ نقل إنسانيُ مماثلُ الأفارقة، والعرب، والأوربيون إلى العراق، لا لغرضِ إلا ليُفجّرُوا أنفسهم. بلغ معدلُ مِنْ ثمانية عشرَ الهجمات ‏الانتحارية في العراق في أبريل هذا العام ثمانية عشر انفجارا مقابل ثمانية في الشّهر عام 2007، طبقاً لناطق عسكري أمريكيِ في بغداد. ‏عبادة الانتحار أَصْبَحتْ مقبولة لدرجة أن مقاتلين عاديينِ في منظمة القاعدةِ يَلْبسونَ الآن الأحزمةَ المتفجرة كجزء مِنْ عدتهم عند خوضهم ‏معاركَ تقليديةَ ضد القوات الأمريكيةِ. فالأحزمة تَمْنعُ أخذهم أسرى أحياء، وتَسْمحُ لهم بقَتْل الأمريكان حتى عندما يَمُوتونَ، ولكنها قبل هذا ‏وذاك تَرضي رغبةً مرتديها للعَيْش مع فكرةَ الاستشهاد واعتناقها بشكل ثابت ِ.‏

ومع ذلك فإن تكتيك العمليات الانتحارية لا يؤدي إلى انتصار في الحروب أو إسقاط أنظمة أو التأثير في معتقدات السكان المحليين المترسخة. ‏ولا يمكن للانتحاريين طرد القوات الأمريكية من العراق أو قوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان. ولكن لهذه العمليات أن تخلق وسط ‏السكان شعورا واسع الانتشار بالرعب والحيرة وعدم الأمان تجعل أية محاولات من قبل مؤسسات الدول والقوات الغربية لكسبهم إلى صفهم ‏عقيمة بشكل متزايد. العمليات الانتحارية لا تؤدي إلى نصر المتمردين، ولكنها تخلق ورطة سياسية تكاد تصل إلى حد الفوضى لا تستطيع ‏القوات الحكومية فيها الانتصار ولا يتسنى لإعادة البناء أن تتم. ويمكن أن تستمر الحرب ما دام هناك إرهابيون راغبين في الانتحار ‏منفجرين. وللأسف، فشل القادة السياسيون وعلماء الإسلام في مواجهة هذا الهجوم بواحد مضاد، فلم يدينه بصفته أمرا محرما إلا قلة من ‏علماء الدين البارزين، ولم يعترضوا على عدم شرعيته في الإسلام لكون الانتحار في حد ذاته حراما. ويقول أخرون من علماء الإسلام أنه ‏في حين تعتبر العمليات الانتحارية ضد المسلمين حراما إلا أنها حلال ضد القوات الغربية الكافرة. وفي باكستان لم يدين أي من القادة ‏الإسلاميين الكبار منظمة القاعدة وحلفائها علنا، بل أن معظم القادة الدينيون في حالة نكران للواقع، ويصرون جهارا نهارا بأنه لا وجود ‏لشيء اسمه منظمة القاعدة وبأن الأمر برمته من وحي خيال الساسة الأمريكيين كوسيلة للتحكم في العالم الإسلامي. ‏

حاول المسؤولون الأمريكيون كسب ود من يدعونهم بالمسلمين المعتدلين إلى جانبهم ولكن هذه السياسة أثبتت فشلها بشكل ذريع. ‏فالمسلمون أنفسهم حاليا يجدون صعوبة في تعريف ما هو معتدل لمجرد أن حتى المسلمين الليبراليين والمتعلمين في الغرب يعارضون ‏سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بشدة. وقد يكون من الأفيد تعريف المسلمين الليبراليين على أنهم يعارضون التطرف، إلا أن عدد ‏هؤلاء قليل للغاية. وبسبب الجهل المتفشي في الدول الإسلامية، صارت كلمة "ليبرالي" في حد ذاتها كلمة قذرة عندما يصف بها أحد القادة ‏المسلمين، الذين يخافون من أن يؤدى هذا الوصف بهم إلى مواجهة مطالب بتطبيق الديمقراطية، في حين تشعر نخبة علماء الدين بأن فكرة ‏الليبرالية في حد ذاتها تهدد وجودهم. ‏

هناك في واقع الأمر الكثير من النقاش في باكستان والدول الإسلامية الأخرى حول ما هو التطرف – نقاش في الصحف والجامعات وداخل ‏المؤسسات الحكومية. إلا أنه ما لم تقم السلطات الحكومية في المنطقة بالترويج بشكل نشط لإسلام معتدل، وتكافح التطرف بشكل واضح، ‏فإن المجتمع المدني في هذه الدول أضعف من أن يقوم بذلك لوحده. وبالإضافة إلى ذلك، لا يستطيع الغرب كسب الحجج الدينية مطلقا ما دام ‏استمر في احتلال العراق والدول الإسلامية الأخرى عسكريا. ‏


ليست هناك تعليقات: