الثلاثاء، 18 نوفمبر 2008

الفدائية الجهادية – الموجة الجديدة - الجزء الثالث والأخير

من المفترض إلا تتمثل إستراتيجية الولايات المتحدة في إيجاد "المسلمين المعتدلين" ومن ثم ختمهم بعلامة "صنع في أمريكا"، بل في ‏تعزيز المجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية. إلا أن الولايات المتحدة تجاهلت ذلك تماما في اعتمادها على القوة العسكرية لشن "حرب ‏ضد الإرهاب" هي في حد ذاتها عمل طائش. فبدلا من صرف المال على تحسين نوعية المدارس الدينية لمجرد أن السلطات الباكستانية ‏وغيرها يطالبون بذلك، كان من الأحرى على الحكومات الغربية تمويل التعليم الحكومي العلماني وتحسين نوعيته من خلال مده بمعلمين ‏أفضل ويناء مدارس أكثر مما يقدم بالتالي خيار بديلا عن الخلاوي والمدارس الدينية. تدعي البلدان الغربية بأنها تبحث عن "المعتدلين من ‏المسلمين" ولكنها في ذات الحين تتفادى موضوع تقديم المعونات المالية الكافية والمنطقية للتنمية الاقتصادية والتعليم في البلدان ‏الإسلامية. والأمر برمته يناسب المتطرفين الدينين لأن تقسيم الغرب للمسلمين إلى معتدل ومتطرف بدون أن يقوم بدعم هؤلاء المعتدلين بأية ‏طريقة لا يؤدي سوى إلى الكشف للمتطرفين عمن معهم ومن ضدهم.‏

منذ الحادي عشر من سبتمبر والولايات المتحدة ومن يحالفها في "الحرب ضد الإرهاب" فقدوا التواصل مع مشاعر واحتياجات الأهالي في ‏البلدان المسلمة. فحوالي 80 بالمائة من المعونة الأمريكية المرسلة إلى باكستان والبالغة حوالي 10 بليون دولار منذ عام 2001 تستخدم ‏في تقوية الجيش الباكستاني. وتصرف الولايات المتحدة في أفغانستان حوالي بليون دولار شهريا في أفغانستان و9.8 بليون شهريا في ‏العراق على المجهود العسكري وأجهزة الأمن المحلية. وبالمقارنة لم يتم صرف سوى مقدار قليل على إعادة التعمير وبناء الدولة وتعزيز ‏مؤسسات المجتمع المدني. ومتى تم إجراء الانتخابات أو الإعلان عن دستور جديد (إن كان ذلك في أفغانستان أو العراق) فإن المؤسسات ‏الديمقراطية الجديدة في هذه الدول – مثل مجلس الشعب أو الأحزاب السياسية أو النظام القضائي والحكومات المحلية – لا تجد الدعم الكافي ‏وبالتالي تفشل في تقديم الخدمات المحلية المنوطة بها. ‏

ففي باكستان، قررت الولايات المتحدة تأييد الرئيس بيرفيز مشرف وهو ديكتاتور عسكري حاول على مدى العام الماضي قمع كل قوى ‏الديمقراطية في بلاده التي قد تمنعه من البقاء في السلطة، فكتم أنفس الصحافة وطرد كبار القضاة من مناصبهم، وخرب دستور البلاد. إلا أن ‏سلطته تلاشت بنفس السرعة التي تضآلت بها شعبيته بعد انتخابات فبراير التي فقد فيها حلفائه مقاعدهم، وسمحت الحكومة الجديدة بقيادة ‏حزب باكستان الشعبي لوسائل الإعلام بالعمل بحرية وأرجعت القضاة إلى مناصبهم بينما يبحث الحزب عن طرق جديدة لمكافحة التطرف، ‏بالرغم من أن تركة تسع سنوات من الحكم العسكري لا يسهل التخلص منها. فمن جهة حارب مشرف منظمة القاعدة وجنى مكافآت ‏الأمريكيين، ومن جهة أخرى سمح لأجهزته الأمنية بإيواء الطالبان الأفغان في باكستان كورقة يلعب بها في حالة سقوط الحكومة الأفغانية ‏الحالية، مما زاد من الغضب ضد الولايات المتحدة وسط الشعب الباكستاني. ‏

وصف كاتبان هما المغربي عمر النصيري والنرويجي برينجار ليا حياة إثنين من المجاهدين وصفا يبين لنا ما كان من شأنه أن يحدث إذا ‏كان الساسة في بلدان الغرب أكثر إطلاعا وفطنة، وكيف كان يمكن إيقاف منظمة القاعدة عند حدها قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر ‏بفترة طويلة. يقول النصيري في كتابه (الجهاد من الداخل) بأنه وقع تحت تأثير المجاهدين الجزائريين لأول مرة في أوائل التسعينات في ‏بلجيكا، وأنه بدأ يعمل جاسوسا للطرفين مع المخبرات الفرنسية أولا، ثم مع الألمان والبريطانيين. وكان يوفر المتفجرات للمسلحين في ‏الجزائر ثم ذهب إلى أفغانستان للتدريب وأخيرا أستقر في بريطانيا حيث حاول الترويج للجهاد العالمي. ولكنه في نفس الوقت كان يمد ‏المخابرات الغربية بالمعلومات حول التحركات المسلحة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وعن قادتهم المنفيين في لندن. وكان يتناول ‏الكحول ويتردد على الملاهي الليلية ويصاحب الفتيات، وبالرغم من إنجذابه إلى مبادئ الجهادية إلا أنه لم يستطع التوقف عن التشكيك فيها. ‏يقول النصيري في كتابة "أمر واحد أقلقني فعلا، إلى وهو ماهية الأسلام المعاصر."‏

‏".. نحن معتمدون تماما على الغرب – للحصول على ملابسنا، سياراتنا، تعليمنا، غسالات أطباقنا.. على كل شيء. وهو أمر ‏مذل ويشعر بذلك جميع المسلمين. لقد كنا روادا لقرون تاركين الغرب خلفنا، بل كنا أكثر الحضارات تقدما في العالم. أما الآن ‏فنحن متخلفون لدرجة أننا لا نستطيع خوض حروبنا بدون أسلحة أعدائنا." ‏

وفي عام 1995 سافر النصيري عبر باكستان إلى خالدين، وهو معسكر لتدريب الإرهابيين في أفغانستان نال من الشهرة ما نال فيما بعد ‏بسبب بن لادن. وهنا تعلم النصيري الأساليب العسكرية، وعلم بأن الجهاد يمنع قتل الأطفال والنساء، وتدمير الكنائس ومصادر المياه ‏والمدارس، وبأنه يمنع الهجوم على أي شخص أثناء الصلاة مهما كان دينه. "بالطبع هناك أنواع عدة من الجهاد،" يقول النصيري ويواصل
‏"هناك جهاد النفس، جهاد التعلم والدراسة. هناك جهاد اللسان، وجهاد بالأعمال أو حتى بالتبرع بالمال لدعم الجهاد الأعلى.. ‏الحرب المقدسة."‏
وما يهمنا في هذا الأمر هو أن مفهوم الجهاد كما تعلمه النصيري مبدئيا كان يتسم بقواعد سلوكية تخلت عنها منظمة القاعدة تماما. وقد ‏تخلى الفرنسيون عن النصيري وتجاهلته المخابرات البريطانية فعمل مع الألمان. ويصف في كتابه تفصيلا قلة اهتمام المخابرات الغربية ‏بظاهرة الجهاد في أواخر التسعينات. وهو مستقر في ألمانيا تحت اسم مستعار. وبعد وقوع أحداث سبتمبر قرر أن يكتب مذكراته. ‏

أما السوري مصطفى بن عبد القادر ست مريم نصار، والمعروف بلقب أبو مصعب السوري، فهو موضوع كتاب المؤرخ النرويجي برينجار ‏ليا (مصمم الجهاد العالمي) وقد كان جهديا ملتزما منذ نعومة أظافره. وكان أبو مصعب يعمل صحفيا ومولع بالتاريخ، بل كان أكثر عملاء ‏منظمة القاعدة ذكاء وإطلاعا وبصيرة. آمن أبو مصعب طويلا بتوسيع الرقعة التي يتحكم فيها الجهاديون، ويحاول الطالبان ومنظمة القاعدة ‏اليوم إعادة الأراضي التي خسروها عام 2001 في مناطق قبائل الباشتو على الحدود بين أفغانستان وباكستان. وكتب يقول "لن نخرج ‏بدولة لنا بدون مواجهة على أرض المعارك وبدون نزع الأرض نزعا. هذا هو الهدف الإستراتيجي لمشروع المقاومة." ووجه أبو مصعب ‏تقدا شديدا لبن لادن لقيامه بأحداث الحادي عشر من سبتمبر قائلا أنه عرض بذلك نظام الطالبان لانتقام الولايات المتحدة. أما وكالة ‏الاستخبارات الأمريكية سي أي إيه فاحتاجت إلى عدة سنوات قبل أن تدرك بأن أبو مصعب مفكر مهم بالنسبة لمنظمة القاعدة. وبالرغم من ‏اعتقاله في باكستان إلا أنه من غير المحتمل أمن يكون أبو مصعب على علم بموقع بن لادن لاختلافاته السابقة معه. وهو بلا شك مصدر ‏هام للمعلومات بالنسبة للسي أي إيه – هذا أن جعلوه يتكلم – وخاصة حول خلايا المجاهدين في أوربا حيث عاش وعمل لسنوات طوال.‏

كتابان لمحللين سياسيين هما دانيال بايمان وفيليب غوردون – (حرب الجبهات الخمس) و(كيف نكسب الحرب الصحيحة) – ينتقدان بفاعلية ‏سياسات الإدارة الأمريكية في ظل الرئيس بوش ويشرحان ما المطلوب من الرئيس المنتخب الجديد القيام به بخصوص الجهاد. بايمان يعمل ‏خبيرا لمكافحة الإرهاب بجامعة جورجتاون، وحاصلا على زمالة معهد بروكينز. أما غوردون فكان يعمل محللا بالمجلس الوطني للأمن وهو ‏أيضا حاصل على زمالة معهد بروكينز. ويعرض كلاهما أفكارا منطقية وسياسات كان من المفترض أن تمارس منذ أمد طويل. ويشعر القارئ ‏بأن إدارة بوش توغلت في الإيديولوجية لدرجة جعلتها تنبذ أي أفكار أساسها الواقع. ‏

يصف بايمان التغييرات التي طرأت على منظمة القاعدة والجدال الذي دار حولها في الولايات المتحدة والخطر الذي تمثله اليوم. وهو ‏يستعمل في ذلك العديد من المصادر ليصل إلى استنتاج بأن القاعدة تهدف إلى التحكم في الأراضي والسلطة، في أفغانستان مثلا بحيث يصبح ‏ذلك طريقا للوصول إلى تأسيس خلافة دولية مستقبلا. وهو يعتقد بأن حرب العراق كارثة خلقت "فقاسة" للمجاهدين ومعتبرا أنه من ‏المستحيل على الولايات المتحدة أن تنتصر فيها. ويقدم بايمان استراتيجيات بديلة للتغلب على منظمة القاعدة، منها إعادة تنظيم القوات ‏العسكرية بشكل جذري بحيث تكون مهمتها الأساسية محاربة التمرد والقيام باغتيال قادة الإرهابيين متى دعت الحاجة إلى ذلك. ولكنه لا ‏يقول لنا إذا ما كانت للولايات المتحدة القدرة على القيام بذلك بمفردها أو إذا ما تطلب الأمر اعتماد على التحالف بين عدد من الدول. ‏

ويثير بايمان نقطة هامة ولكنها منسية أن الحرب الدعائية التي تشنها منظمة القاعدة أكثر فعالية في العالم الإسلامي من تلك التي تقوم بها ‏الولايات المتحدة، وبأن "العراق صار عطية كبري للقاعدة من حيث العلاقات العامة". فالمنظمة اليوم تطالب على موقعها فوق شبكة ‏الإنترنت بمتطوعين لهم خبرات في تقنيات المعلومات وثورة الاتصالات. بل أن القاعدة نشعر بقوتها لدرجة أنها تروج علنا لمعسكرات ‏التدريب التابعة لها، وقام المجاهد العراقي المخضرم أبو كشة الذي يدير معسكرا للانتحاريين في مير علي بمناطق باكستان القبلية بإطلاق ‏شريط فيديو في أبريل الماضي يدعو فيه إلى الجهاد ضد الولايات المتحدة وحلفائها وعارضا خدماته لتدريب الأجانب على الجهاد. ‏
لن يكون من السهل مواجهة مثل هؤلاء الخصوم. يقول بايمان بأن على البيروقراطية التي تدير رسالة الولايات المتحدة أن تصبح أقوى وأن ‏تلعب دورا أكبر، وإعطاء الموظفين القائمين عليها مناصبا أعلى. ولكنه يفشل غي إخبارنا عن نوع الرسالة التي على الولايات المتحدة ‏إطلاقها نحو المسلمين الشباب المستلبين كبديل عن الحديث السلبي عن منظمة القاعدة. كما أنه لا يقترح أين على الولايات المتحدة أن تجد ‏مثل هؤلاء البيروقراطيين المطلعين الواعيين. ولكنه يعرف عدة تحديات هامة على الساسة الأمريكيين مواجهتها. ‏

أما فيليب غوردون فيوضح موقفه منذ بداية الكتاب: "إن الإدارة فاشلة لأنها تشن الحرب الخطأ، وتؤمن باستعمال اللهجة الصارمة والقوة ‏العسكرية في وقت تكون فيه الأيديولوجية والمعلومات والدبلوماسية والدفاع أكثر أهمية من ذلك." وهو يصف كيف قام الرئيس السابق ‏بوش باستمرار برسم صورة كاذبة مبسطة عن الحرب ضد الإرهاب على أنها ضد أشرار يكرهون القيم الأمريكية، ويضيف بأن الولايات ‏المتحدة كسبت الحرب الباردة من خلال احتواء الاتحاد السوفيتي باستراتيجية مشعبة وبأن هذا هو ما يحتاجه التعامل مع المجاهدين. فهي ‏حرب طويلة الأجل تحتاج إلى أفكار وليست من نوع الحروب القصيرة التي دربت على شنها القوات الأمريكية. ‏

ويكتب غوردون بأنه كان على إدارة بوش أن تتخذ خطوات شجاعة تجاه سياسة الطاقة الوطنية وممارسة دبلوماسية أكثر تركيزا وإطلاعا ‏في الشرق الأوسط في سبيل شن الحرب الصحيحة. ولديه قائمة طويلة من الأمور التي يجب القيام بها: إغلاق معتقل جوانتانامو، رفع ‏ميزانية الدفاع الوطني، إعادة تعمير خدمات المعلومات في الولايات المتحدة، وتقليل إعتماد البلاد على البترول العربي. كما يجادل بوجوب ‏انسحاب الولايات الأمريكية من العراق والتعامل مع إيران دبلوماسيا لأن لديها تأثير كبير على جارتها الشيعية. كما على الولايات المتحدة ‏‏"إعادة وضعها كوسيط نزيه بين العرب والإسرائيليين والقيام بمجهودات أكبر بكثير لتأسيس السلام بين إسرائيل وفلسطين." ‏

ويستحسن أن تأخذ الإدارة الأمريكية القادمة تحليل وتوصيات كل من بايمان وغوردون مأخذ جد. فقد ارتفع عدد المعارك والهجمات ‏الانتحارية هذا العام في العراق وأفغانستان. فمن يناير إلى مارس 2008 قام الطالبان بحوالي 700 هجوم راح ضحيتهم 463 مدني، مقابل ‏‏424 هجوم و264 قتيل في نفس تلك الفترة العام الماضي. بل إن الطريقة التي تجري بها الولايات المتحدة الحرب ضد الإرهاب جعمت من ‏رسالة المجاهدين وشجعت على انتشار منظمة القاعدة وحلفائها في أوربا وخارجها. ليس هناك حل سريع لقضية الهجمات الإنتحارية في ‏أفغانستان والعراق وغيرهما، بل لن يقوم على ذلك سوى مجهود كبير طويل المدى لإعادة تشكيل الدبلوماسية الأمريكية وخلق سياسات ‏جديدة للمعونات وبناء مؤسسات الدولة واستعمال القوة العسكرية معا بمساعدة الدول الأخرى. ‏


ليست هناك تعليقات: