من المفترض إلا تتمثل إستراتيجية الولايات المتحدة في إيجاد "المسلمين المعتدلين" ومن ثم ختمهم بعلامة "صنع في أمريكا"، بل في تعزيز المجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية. إلا أن الولايات المتحدة تجاهلت ذلك تماما في اعتمادها على القوة العسكرية لشن "حرب ضد الإرهاب" هي في حد ذاتها عمل طائش. فبدلا من صرف المال على تحسين نوعية المدارس الدينية لمجرد أن السلطات الباكستانية وغيرها يطالبون بذلك، كان من الأحرى على الحكومات الغربية تمويل التعليم الحكومي العلماني وتحسين نوعيته من خلال مده بمعلمين أفضل ويناء مدارس أكثر مما يقدم بالتالي خيار بديلا عن الخلاوي والمدارس الدينية. تدعي البلدان الغربية بأنها تبحث عن "المعتدلين من المسلمين" ولكنها في ذات الحين تتفادى موضوع تقديم المعونات المالية الكافية والمنطقية للتنمية الاقتصادية والتعليم في البلدان الإسلامية. والأمر برمته يناسب المتطرفين الدينين لأن تقسيم الغرب للمسلمين إلى معتدل ومتطرف بدون أن يقوم بدعم هؤلاء المعتدلين بأية طريقة لا يؤدي سوى إلى الكشف للمتطرفين عمن معهم ومن ضدهم. منذ الحادي عشر من سبتمبر والولايات المتحدة ومن يحالفها في "الحرب ضد الإرهاب" فقدوا التواصل مع مشاعر واحتياجات الأهالي في البلدان المسلمة. فحوالي 80 بالمائة من المعونة الأمريكية المرسلة إلى باكستان والبالغة حوالي 10 بليون دولار منذ عام 2001 تستخدم في تقوية الجيش الباكستاني. وتصرف الولايات المتحدة في أفغانستان حوالي بليون دولار شهريا في أفغانستان و9.8 بليون شهريا في العراق على المجهود العسكري وأجهزة الأمن المحلية. وبالمقارنة لم يتم صرف سوى مقدار قليل على إعادة التعمير وبناء الدولة وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني. ومتى تم إجراء الانتخابات أو الإعلان عن دستور جديد (إن كان ذلك في أفغانستان أو العراق) فإن المؤسسات الديمقراطية الجديدة في هذه الدول – مثل مجلس الشعب أو الأحزاب السياسية أو النظام القضائي والحكومات المحلية – لا تجد الدعم الكافي وبالتالي تفشل في تقديم الخدمات المحلية المنوطة بها. ففي باكستان، قررت الولايات المتحدة تأييد الرئيس بيرفيز مشرف وهو ديكتاتور عسكري حاول على مدى العام الماضي قمع كل قوى الديمقراطية في بلاده التي قد تمنعه من البقاء في السلطة، فكتم أنفس الصحافة وطرد كبار القضاة من مناصبهم، وخرب دستور البلاد. إلا أن سلطته تلاشت بنفس السرعة التي تضآلت بها شعبيته بعد انتخابات فبراير التي فقد فيها حلفائه مقاعدهم، وسمحت الحكومة الجديدة بقيادة حزب باكستان الشعبي لوسائل الإعلام بالعمل بحرية وأرجعت القضاة إلى مناصبهم بينما يبحث الحزب عن طرق جديدة لمكافحة التطرف، بالرغم من أن تركة تسع سنوات من الحكم العسكري لا يسهل التخلص منها. فمن جهة حارب مشرف منظمة القاعدة وجنى مكافآت الأمريكيين، ومن جهة أخرى سمح لأجهزته الأمنية بإيواء الطالبان الأفغان في باكستان كورقة يلعب بها في حالة سقوط الحكومة الأفغانية الحالية، مما زاد من الغضب ضد الولايات المتحدة وسط الشعب الباكستاني. وصف كاتبان هما المغربي عمر النصيري والنرويجي برينجار ليا حياة إثنين من المجاهدين وصفا يبين لنا ما كان من شأنه أن يحدث إذا كان الساسة في بلدان الغرب أكثر إطلاعا وفطنة، وكيف كان يمكن إيقاف منظمة القاعدة عند حدها قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بفترة طويلة. يقول النصيري في كتابه (الجهاد من الداخل) بأنه وقع تحت تأثير المجاهدين الجزائريين لأول مرة في أوائل التسعينات في بلجيكا، وأنه بدأ يعمل جاسوسا للطرفين مع المخبرات الفرنسية أولا، ثم مع الألمان والبريطانيين. وكان يوفر المتفجرات للمسلحين في الجزائر ثم ذهب إلى أفغانستان للتدريب وأخيرا أستقر في بريطانيا حيث حاول الترويج للجهاد العالمي. ولكنه في نفس الوقت كان يمد المخابرات الغربية بالمعلومات حول التحركات المسلحة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وعن قادتهم المنفيين في لندن. وكان يتناول الكحول ويتردد على الملاهي الليلية ويصاحب الفتيات، وبالرغم من إنجذابه إلى مبادئ الجهادية إلا أنه لم يستطع التوقف عن التشكيك فيها. يقول النصيري في كتابة "أمر واحد أقلقني فعلا، إلى وهو ماهية الأسلام المعاصر." ".. نحن معتمدون تماما على الغرب – للحصول على ملابسنا، سياراتنا، تعليمنا، غسالات أطباقنا.. على كل شيء. وهو أمر مذل ويشعر بذلك جميع المسلمين. لقد كنا روادا لقرون تاركين الغرب خلفنا، بل كنا أكثر الحضارات تقدما في العالم. أما الآن فنحن متخلفون لدرجة أننا لا نستطيع خوض حروبنا بدون أسلحة أعدائنا." وفي عام 1995 سافر النصيري عبر باكستان إلى خالدين، وهو معسكر لتدريب الإرهابيين في أفغانستان نال من الشهرة ما نال فيما بعد بسبب بن لادن. وهنا تعلم النصيري الأساليب العسكرية، وعلم بأن الجهاد يمنع قتل الأطفال والنساء، وتدمير الكنائس ومصادر المياه والمدارس، وبأنه يمنع الهجوم على أي شخص أثناء الصلاة مهما كان دينه. "بالطبع هناك أنواع عدة من الجهاد،" يقول النصيري ويواصل أما السوري مصطفى بن عبد القادر ست مريم نصار، والمعروف بلقب أبو مصعب السوري، فهو موضوع كتاب المؤرخ النرويجي برينجار ليا (مصمم الجهاد العالمي) وقد كان جهديا ملتزما منذ نعومة أظافره. وكان أبو مصعب يعمل صحفيا ومولع بالتاريخ، بل كان أكثر عملاء منظمة القاعدة ذكاء وإطلاعا وبصيرة. آمن أبو مصعب طويلا بتوسيع الرقعة التي يتحكم فيها الجهاديون، ويحاول الطالبان ومنظمة القاعدة اليوم إعادة الأراضي التي خسروها عام 2001 في مناطق قبائل الباشتو على الحدود بين أفغانستان وباكستان. وكتب يقول "لن نخرج بدولة لنا بدون مواجهة على أرض المعارك وبدون نزع الأرض نزعا. هذا هو الهدف الإستراتيجي لمشروع المقاومة." ووجه أبو مصعب تقدا شديدا لبن لادن لقيامه بأحداث الحادي عشر من سبتمبر قائلا أنه عرض بذلك نظام الطالبان لانتقام الولايات المتحدة. أما وكالة الاستخبارات الأمريكية سي أي إيه فاحتاجت إلى عدة سنوات قبل أن تدرك بأن أبو مصعب مفكر مهم بالنسبة لمنظمة القاعدة. وبالرغم من اعتقاله في باكستان إلا أنه من غير المحتمل أمن يكون أبو مصعب على علم بموقع بن لادن لاختلافاته السابقة معه. وهو بلا شك مصدر هام للمعلومات بالنسبة للسي أي إيه – هذا أن جعلوه يتكلم – وخاصة حول خلايا المجاهدين في أوربا حيث عاش وعمل لسنوات طوال. كتابان لمحللين سياسيين هما دانيال بايمان وفيليب غوردون – (حرب الجبهات الخمس) و(كيف نكسب الحرب الصحيحة) – ينتقدان بفاعلية سياسات الإدارة الأمريكية في ظل الرئيس بوش ويشرحان ما المطلوب من الرئيس المنتخب الجديد القيام به بخصوص الجهاد. بايمان يعمل خبيرا لمكافحة الإرهاب بجامعة جورجتاون، وحاصلا على زمالة معهد بروكينز. أما غوردون فكان يعمل محللا بالمجلس الوطني للأمن وهو أيضا حاصل على زمالة معهد بروكينز. ويعرض كلاهما أفكارا منطقية وسياسات كان من المفترض أن تمارس منذ أمد طويل. ويشعر القارئ بأن إدارة بوش توغلت في الإيديولوجية لدرجة جعلتها تنبذ أي أفكار أساسها الواقع. يصف بايمان التغييرات التي طرأت على منظمة القاعدة والجدال الذي دار حولها في الولايات المتحدة والخطر الذي تمثله اليوم. وهو يستعمل في ذلك العديد من المصادر ليصل إلى استنتاج بأن القاعدة تهدف إلى التحكم في الأراضي والسلطة، في أفغانستان مثلا بحيث يصبح ذلك طريقا للوصول إلى تأسيس خلافة دولية مستقبلا. وهو يعتقد بأن حرب العراق كارثة خلقت "فقاسة" للمجاهدين ومعتبرا أنه من المستحيل على الولايات المتحدة أن تنتصر فيها. ويقدم بايمان استراتيجيات بديلة للتغلب على منظمة القاعدة، منها إعادة تنظيم القوات العسكرية بشكل جذري بحيث تكون مهمتها الأساسية محاربة التمرد والقيام باغتيال قادة الإرهابيين متى دعت الحاجة إلى ذلك. ولكنه لا يقول لنا إذا ما كانت للولايات المتحدة القدرة على القيام بذلك بمفردها أو إذا ما تطلب الأمر اعتماد على التحالف بين عدد من الدول. ويثير بايمان نقطة هامة ولكنها منسية أن الحرب الدعائية التي تشنها منظمة القاعدة أكثر فعالية في العالم الإسلامي من تلك التي تقوم بها الولايات المتحدة، وبأن "العراق صار عطية كبري للقاعدة من حيث العلاقات العامة". فالمنظمة اليوم تطالب على موقعها فوق شبكة الإنترنت بمتطوعين لهم خبرات في تقنيات المعلومات وثورة الاتصالات. بل أن القاعدة نشعر بقوتها لدرجة أنها تروج علنا لمعسكرات التدريب التابعة لها، وقام المجاهد العراقي المخضرم أبو كشة الذي يدير معسكرا للانتحاريين في مير علي بمناطق باكستان القبلية بإطلاق شريط فيديو في أبريل الماضي يدعو فيه إلى الجهاد ضد الولايات المتحدة وحلفائها وعارضا خدماته لتدريب الأجانب على الجهاد. أما فيليب غوردون فيوضح موقفه منذ بداية الكتاب: "إن الإدارة فاشلة لأنها تشن الحرب الخطأ، وتؤمن باستعمال اللهجة الصارمة والقوة العسكرية في وقت تكون فيه الأيديولوجية والمعلومات والدبلوماسية والدفاع أكثر أهمية من ذلك." وهو يصف كيف قام الرئيس السابق بوش باستمرار برسم صورة كاذبة مبسطة عن الحرب ضد الإرهاب على أنها ضد أشرار يكرهون القيم الأمريكية، ويضيف بأن الولايات المتحدة كسبت الحرب الباردة من خلال احتواء الاتحاد السوفيتي باستراتيجية مشعبة وبأن هذا هو ما يحتاجه التعامل مع المجاهدين. فهي حرب طويلة الأجل تحتاج إلى أفكار وليست من نوع الحروب القصيرة التي دربت على شنها القوات الأمريكية. ويكتب غوردون بأنه كان على إدارة بوش أن تتخذ خطوات شجاعة تجاه سياسة الطاقة الوطنية وممارسة دبلوماسية أكثر تركيزا وإطلاعا في الشرق الأوسط في سبيل شن الحرب الصحيحة. ولديه قائمة طويلة من الأمور التي يجب القيام بها: إغلاق معتقل جوانتانامو، رفع ميزانية الدفاع الوطني، إعادة تعمير خدمات المعلومات في الولايات المتحدة، وتقليل إعتماد البلاد على البترول العربي. كما يجادل بوجوب انسحاب الولايات الأمريكية من العراق والتعامل مع إيران دبلوماسيا لأن لديها تأثير كبير على جارتها الشيعية. كما على الولايات المتحدة "إعادة وضعها كوسيط نزيه بين العرب والإسرائيليين والقيام بمجهودات أكبر بكثير لتأسيس السلام بين إسرائيل وفلسطين." ويستحسن أن تأخذ الإدارة الأمريكية القادمة تحليل وتوصيات كل من بايمان وغوردون مأخذ جد. فقد ارتفع عدد المعارك والهجمات الانتحارية هذا العام في العراق وأفغانستان. فمن يناير إلى مارس 2008 قام الطالبان بحوالي 700 هجوم راح ضحيتهم 463 مدني، مقابل 424 هجوم و264 قتيل في نفس تلك الفترة العام الماضي. بل إن الطريقة التي تجري بها الولايات المتحدة الحرب ضد الإرهاب جعمت من رسالة المجاهدين وشجعت على انتشار منظمة القاعدة وحلفائها في أوربا وخارجها. ليس هناك حل سريع لقضية الهجمات الإنتحارية في أفغانستان والعراق وغيرهما، بل لن يقوم على ذلك سوى مجهود كبير طويل المدى لإعادة تشكيل الدبلوماسية الأمريكية وخلق سياسات جديدة للمعونات وبناء مؤسسات الدولة واستعمال القوة العسكرية معا بمساعدة الدول الأخرى.
"هناك جهاد النفس، جهاد التعلم والدراسة. هناك جهاد اللسان، وجهاد بالأعمال أو حتى بالتبرع بالمال لدعم الجهاد الأعلى.. الحرب المقدسة."
وما يهمنا في هذا الأمر هو أن مفهوم الجهاد كما تعلمه النصيري مبدئيا كان يتسم بقواعد سلوكية تخلت عنها منظمة القاعدة تماما. وقد تخلى الفرنسيون عن النصيري وتجاهلته المخابرات البريطانية فعمل مع الألمان. ويصف في كتابه تفصيلا قلة اهتمام المخابرات الغربية بظاهرة الجهاد في أواخر التسعينات. وهو مستقر في ألمانيا تحت اسم مستعار. وبعد وقوع أحداث سبتمبر قرر أن يكتب مذكراته.
لن يكون من السهل مواجهة مثل هؤلاء الخصوم. يقول بايمان بأن على البيروقراطية التي تدير رسالة الولايات المتحدة أن تصبح أقوى وأن تلعب دورا أكبر، وإعطاء الموظفين القائمين عليها مناصبا أعلى. ولكنه يفشل غي إخبارنا عن نوع الرسالة التي على الولايات المتحدة إطلاقها نحو المسلمين الشباب المستلبين كبديل عن الحديث السلبي عن منظمة القاعدة. كما أنه لا يقترح أين على الولايات المتحدة أن تجد مثل هؤلاء البيروقراطيين المطلعين الواعيين. ولكنه يعرف عدة تحديات هامة على الساسة الأمريكيين مواجهتها.
الثلاثاء، 18 نوفمبر 2008
الفدائية الجهادية – الموجة الجديدة - الجزء الثالث والأخير
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق