السبت، 29 نوفمبر 2008

الشرق الأوسط: ما العمل؟

سري نسيبة فيلسوف فلسطيني والرئيس الحالي لجامعة القدس، جاء أجداده إلى فلسطين جنودا في جيش الخليفة عمر بن الخطاب لدى فتحه القدس عام 638 ميلادية، وصاروا منذ حينها جزء لا يتجزأ من تاريخ تلك المدينة. وفي سيرته الذاتية بعنوان "حكاية وطن" يقول د. نسيبة واصفا حكام فلسطين البريطانيين بعد الحرب العالمية الأولي بأنهم "هم أيضا قاموا ما سيعاد القيام به مرات لا تحصى في المستقبل: أرسلوا "خبراء" لا يفقهون شيئا ليجدوا حلا للمشكلة."

إن هذا الوصف القاسي للعديد من الأشخاص الذين كرسوا حياتهم المهنية للقضية الفلسطينية الإسرائيلية إنما يعكس الإحباط والشعور بالخسارة المريرة التي يشعر بها فلسطيني مثقف واع لعب أجداده دوراً رياديا في فلسطين على مدى ألف وثلاثمائة عام، كما يعكس شعوره بأن العالم الخارجي قد خانهم شر خيانة. فالذاكرة التاريخية في الشرق الأوسط طويلة للغاية وتشمل من المفاخر ما تشمله من خزي، منتجة بذلك مشاعر وعواطف يصعب فهمها على الشعوب ذات ذاكرات أقصر وتاريخ غير موغل في القدم.

لا شك أن "قضية الشرق الأوسط" كما يطلق عليها اليوم جذبت أسرابا من الخبراء وأنتجت ألاف الصفحات من الخبرة – أكثر بكثير من أية قضية دولية غيرها. إلا أن القضية وبعد مرور ثمانين عاما ونيف لم تزد سوى تعقدا وهي أبعد ما تكون عن الحلول. فالحل السلمي لم يقدر عليه لا أبطالها ولا الخبراء المختصين بها ولا مئات غيرهم ممن حاولوا مد يد العون لهم.

فلنأخذ على سبيل المثال كينيث بولاك. يصفه الناشرون على أنه من أبرز المحللين السياسيين لمنطقة الشرق الأوسط. والرجل عمل بمجلس الأمن القومي الأمريكي أبان حكم كلنتون، وقضى سبع سنوات محللا للسياسات العسكرية في الخليج العربي لحساب الاستخبارات الأمريكية، وانتهى به الأمر مديرا لمركز سابان لسياسة الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز. وكان كتابه "العاصفة المتوعدة" الذي صدر عام 2002 هجوما على "أخطاء إدارة بوش الهائلة" و"الفوضى الإستراتيجية التي سيتطلب إصلاحها أعواما" في العراق. وهو كتاب غاضب، لأن بولاك الذي كان من مشجعي التدخل في العراق اكتشف بأن "أسلحة الدمار الشامل" إنما كانت من اختراعات الإدارة الأمريكية التي أرادتها ذريعة لشن الحرب. وفي كتابه الجديد "الخروج من الصحراء" عبارة عن "مخطط لإستراتيجية الولايات المتحدة الكبرى في الشرق الأوسط".

يقوم بولاك في كتابه هذا بقلب الأولويات المعتادة رأسا على عقب، فلا تنال جوانب القضية الأكثر شهرة منه – مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو العراق أو إيران – إلا مناقشة قصيرة على صفحات الكتاب الأخيرة. فالموضوع الأساسي بالنسبة له هي الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول الشرق الأوسط المسلمة باعتبارها الوسيلة الجادة الوحيدة لمكافحة مشكلات الإرهاب وحماية مصالح الولايات المتحدة الأساسية في المنطقة. وتشير "الإستراتيجية الكبرى" في عنوان الكتاب إلى السياسة العامة التي على الولايات المتحدة أن تستنبطها لتصبح العقل المدبر والقائد لهذه الإصلاحات الضخمة. ويتكرر مصطلح "الإستراتيجية الكبرى" في النص بكثرة تكرار الهجوم على جورج بوش، وكلاهما يصل بك إلى الشعور بالغم!

يعرف بولاك المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط باثنين رئيسيين: ضمان إنتاج وتوريد البترول (نقطة ضعف العالم الغربي)، يليه أمن إسرائيل. والهدف من "الإستراتيجية الكبرى" في رأيه هو "التغيير التدريجي في الشرق الأوسط تقوده الحركات المحلية بمساعدة العالم".تستهلك الولايات المتحدة ربع المخزون العالمي للبترول، وتستورد 65 بالمائة من احتياجات استهلاكها. وتنتج دول الخليج العربي 23 بالمائة من بترول العالم، نصفه من السعودية. كل البترول المخزون القابل للاستخراج الفوري موجود في السعودية ودول الخليج، بل إن الإنتاج السعودي ضروري للاقتصاد العالمي ولا يمكن استبداله. وليس هناك مكان ذو أهمية اقتصادية أكبر من مصفاة البقيق التي تعرضت عام 2006 إلى محاولة تفجير بعربتين مفخختين. وبالتالي، يقول بولاك، من أول أولويات سياسة الولايات المتحدة هو منع أي قلاقل في المنطقة يمكن أن تؤثر سلبا على تدفق البترول من الشرق الأوسط ويؤدي إلى كارثة اقتصادية.

يكتب بولاك بأن وعد بلفور عام 1917نص على أن "بريطانيا ستؤيد خلق دولة يهودية". والحقيقة أن النص لا يذكر دولة بل وطنا للشعب اليهودي، وهي عبارة غامضة لا معنى محدد لها. ويضيف بولاك أن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل مؤسسة على الإيمان بحق تقرير المصير والديمقراطية والقيم الأخلاقية وأنه لا علاقة لها بالضغوط الداخلية في الولايات الأمريكية. ويضيف أن دعم أمريكا الراسخ لإسرائيل منذ عام 1967 ساعد "الولايات المتحدة على ممارسة ضغوط على إسرائيل للحد من عملياتها العسكرية في المنطقة، وأن ذلك كان العنصر الحاسم في كسب الحلفاء وسط العرب والاحتفاظ بهم." ولكنه يفشل في ذكر العامل المهم التالي: إن الولايات المتحدة ورغم ما تبشر به، فشلت في احتواء الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية – وهو الاستيطان الذي يمثل حجر عثرة رئيسي على طريق الحل السلمي ويسبب غضبا وسط حلفاء الولايات المتحدة، نهيك عن الفلسطينيين وبقية الدول العربية في الشرق الأوسط.

المشكلة الأساسية بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ليست هي الإرهاب، فالإرهاب من أعراض التزعزع المتأصل الذي يتسبب فيه فشل الأنظمة العربية الراكدة. فالانفجار السكاني الحاصل – من 78.6 مليون نسمة عام 1950 إلى 375 مليون عام 2010 – لا يوازيها نمو في الدخل القومي، حيث بقت المرتبات والإنتاجية على مستواها منذ 1970، ويولد الانفجار السكاني والبطالة الحرمان والسخط بين الجماهير. وبلغت نسبة البطالة في الشرق الأوسط العام الماضي أعلى المستويات في العالم بينما أدى انعدام التخطيط الحضري وصرف الحكومات على الإسكان إلى خلق أحياء عشوائية للفقراء حول معظم المدن الكبرى: 35 بالمائة من سكان القاهرة يعيش في مثل هذه الأحياء.ولم تقم العولمة سوى بإبراز اختلال الحكومات العربية وعدم كفاءاتها بل وعدم قدرتها على المنافسة في اقتصاد عالمي. ويورد بولاك عددا من الأمثلة المؤلمة – فكوريا الجنوبية وتايوان، على سبيل المثال، تصدران في يومين ما يعادل صادرات مصر في العام الواحد، بينما تفوق صادرات الصناعات الإسرائيلية (6 مليون نسمة) إجمالي كل الصادرات العربية باستثناء البتروليات (325 مليون نسمة). وتعوق البيروقراطيات المعوقة الجبارة ونسب الإنتاج المنخفضة الشركات الأجنبية من الاستثمار في أي مجال آخر سوى البترول، بينما تعمل الثروة البترولية على تحريف اقتصاد المنطقة ونظمها السياسية وتمحي تأثير قوى السوق، ولا تعمل الحكومات الغنية بالبترول على إغلاق المصالح التجارية التي لا تجني منها ربحا، بل تقدم العون المالي لها.

وتنتج هذه المحسوبية الحكومية قطاعا عاما غير كفء بشكل فادح، بل أن الحكومات في عدد من الدول التي تتمتع بنسب بطالة عالية تقوم على استيراد العمالة الأجنبية. وتزداد الهوة بين الأغنياء والفقراء عمقا باستمرار، فيعيش ما بين 20 إلى 30 بالمائة من السعوديين تحت مستوى الفقر، مما يسهل لمنظمة القاعدة عمليات التجنيد وسط الشباب المعدم في دولة يكره فيها الشعب حكومة تستولي على كل عائدات البترول ولا تشاركهم بها.

أما النظم التعليمية فتنال من بولاك نقدا صارما: "فهي لا تنتج أعدادا كبيرة من أشخاص قادرين على خلق المعرفة واستعمالها لتمكين الدول العربية من المنافسة في السوق العالمية." ولأن الحكومة هي الجهة الرئيسية للصرف على التعليم في الشرق الأوسط فلوزارات التعليم قبضة محكمة كاتمة للأنفاس على المناهج والكتب الدراسية المسموح باستعمالها، بل وعلى مستويات تدريب المعلمين. وعلق تقرير التنمية البشرية في البلدان العربية عام 2003، الذي قام بكتابته 22 خبير عربي بارز يعملون لصالح هيئة الأمم المتحدة للتنمية، بأن أسلوب تربية الأطفال في الشرق الأوسط "هو أسلوب سلطوي يتسم بالحماية المبالغ فيها. ويقلل هذا من قدرة الطفل على تنمية استقلاله الذاتي والكفاءة الاجتماعية، بل يشجع على السلوك السلبي وانعدام مهارات اتخاذ القرارات بسرعة. والأهم من كل هذا أنه يؤثر على طريقة تفكير الطفل – لا تسأل، لا تستكشف، ولا تبادر."

الاعتقاد بأن المعرفة لا تخلق بل تمرر من جيل إلى جيل، وتفشي التعليم بواسطة الحفظ على ظهر القلب لنصوص لا تقبل الجدل تثبط من الابتكار والمبادرة. ومن الملاحظ بأنه في الفترة ما بين 1980 و2000 قامت إسرائيل، التي يبلغ تعدادها السكاني عشر ما في مصر، بتسجيل براءات اختراعات بما يعادل مائة مرة ما سجلته مصر. وبالرغم من أن التعليم العالي يرفع من توقعات الطلاب وطموحاتهم المستقبلية، فإن معدلات البطالة العالية والمقنعة تبلغ مستويات مرعبة وسط الطبقات المتعلمة في الشرق الأوسط. بل إن الدول العربية "محاصرة من قبل الحداثة" – والحداثة تعني بالنسبة لأغلبهم الثقافة الجماهيرية والوصول الفوري إلى المعلومات وسبل التواصل، والاقتصاد والتجارة العالمية، وفوق كل هذا وذاك قيم وسلوكا جديدا وطرقا مختلفة للتفكير والتصرف. والدول المسلمة ترى في هذا التجانس الثقافي العالمي الناشئ خطرا على الثقافة واللغة والهوية العربية، ولا أحد يستطيع البت بأنهم مخطئون في ذلك! وحتى في الإمارات العربية المتحدة التي عانقت العولمة بحماس، هناك ميل إلى التقوقع داخل شرنقة عربية التي – حسب وصف التقرير المذكور أعلاه – تعوق التعاون مع الشركاء الأجانب في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. وبينما تبلغ النسبة العالمية لأعداد الحواسيب واحدا لكل 78 شخصا، يملك كل شخص من ألف حاسوبا في العالم العربي.

يدعي بولاك أن العالم العربي هو أخر "قلعة الاستبداد الأخيرة" في العالم، وهو ادعاء يفتقد إلى الصحة – هناك مثلا زمبابوي، والصين وروسيا وكلها دول ذات حكومات استبدادية. ولكن ما يعنيه هو أن الدول في الشرق الأوسط فشلت في تطوير اقتصاديات سوق ناجحة لأنها مثقلة ببيروقراطيات متحجرة ومحسوبية ووساطة وفساد يعم قطاع عام يعاني من الانتفاخ. ويتحكم في هذه المجتمعات الإصرار الأعمى على إبقاء الأمور على حالها، وتفادي أي أمر من شأنه تعطيل شبكات المحسوبية. المنافسة الصحية تفوت على الاقتصاد العربي لأن الاحتكارات المتجذرة تسيطر على العديد من القطاعات، وتتسلط فكرة الأمن بشكل مرضي على الدولة جنبا إلى جنب مع الحاجة إلى قمع أية معارضة محتملة. كما تقوم الرقابة الحكومية على مؤسسات التعليم العالي بقمع روح البحث والإبداع.

أما الصحافة فهي في غالبها خانعة للحكومة التي تتحكم كذلك في الإذاعة والتلفزيون. ومن المضحك أن للعراق حاليا أكثر الصحافة حرية في العالم العربي، ولكن الأهم منها هي القنوات الفضائية العربية (الجزيرة، العربية، وغيرها) التي تقدم المعلومات والتعليقات والأخبار يشكل جديد يغير من ملامح وسائل الإعلام في العالم العربي، بل وتقوم على توعية الشعوب العربية بالديمقراطية أكثر من أية جهة أخرى.ومن الأوجه الهامة للسيطرة الحكومية على وسائل الإعلام الميل للوم القوى الخارجية وخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل على كل الأوضاع التي تتسبب في سخط شعوبها – القمع، البطالة، والفقر والبؤس المنتشر. وهذا بدوره يغذي نظريات التآمر الشائعة ويمد الحكومات بذريعة نافعة لقضم رقاب المعارضة. كما أنه عذر مقبول لتأجيل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية إلى أجل غير مسمى باسم التضامن الوطني ضد معتدي خارجي مدجج بالسلاح.

ويختم قائمة البركات هذه نظام تشريعي سفيه وسخيف – متناقض مع المنطق، لا يمكن بلوغه، يفتقر إلى الشفافية والتمويل والثقة من العامة، وملئ بالتعيينات التي تتم بالواسطة والمحسوبية وليس على أساس القدرات. ولا يتسبب هذا النظام التشريعي في غضب الشعب وشعوره بالقهر، بل ويقف عائقا أمام الاستثمار الأجنبي والتجارة الوطنية على حد سواء.

ليست هناك تعليقات: